«انفجار، انفجار».«عم بقولو الحريري».

ما فهمه التلامذة آنذاك من الموضوع أنهم أخذوا ثلاثة أيام عطلة. لم يفهموا تبعات الحدث، مفاعيله، ومعناه. أُغلقت بيروت، وغطت الأعلام ساحاتها الرئيسية. بدأ زمن التظاهرات، وولى زمن التفاهمات. انقسم لبنان الى 8 و14، هكذا فجأة، وبدل أن يذهب التلامذة إلى المنازل، وجدوا أنفسهم في الساحات. غصت ساحات رياض الصلح بالتظاهرات السلميّة. وعلى أطرافها أٌقيمت نشاطات، حولت المشهد إلى كرنفال. باعة الكعك، غزل البنات، ترمس، فول، عرانيس... مهرجانات بطابع سياسي.
وعلى الرغم من انها عطلت العجلة الاقتصادية في بعض الأماكن، ولفئة «معينة» من الناس، إلا أنها كانت بوابة رزق لآخرين، وفرصة طبعاً، للتلامذة، للاحتفال.
وللرزق تعريفات. فاطمة (24 سنة) التي كانت تسجّل حضورها في التظاهرات يومياً، رزقت بـ«فارس أحلامها» هناك. كانت أياماً رائعة... «كنا ننزل لنطق حنك ونتسلى. ننزل بعد المدرسة دغري ونضل للليل. عنجد كانت ايام حلوة». يا للطافة. من المؤكد أنها كانت اياماً جميلة لمن لم يفهم «الغليان» السياسي الذي كان على وشك أن يحرق البلد. لفاطمة الآن طفلتان. «أكيد مننزل انا واياهن هلق على كل مناسبة. صحيح وقتها ما كنت فهمانة شو الموضوع. بس هلق فهمانة وبدي ضل انزل».

كانت فاطمة تقريباً طفلة تقريباً وقتذاك وزجت في المعركة، واليوم، لا مانع لديها من أن تزج أطفالها في المعارك الجديدة. تضحك قائلة: «بركي بعد عشر سنين لقيت عرسان لبناتي». خارج المشهد إذاً، النظام البطريركي على حاله، وما البحث عن «عريس» إلا دليل إلى ذلك. وكفاطمة، حسين (25 سنة)، كان يشارك في التظاهرات مع الأصدقاء. وكان يشارك لأجلهم وليس لأنه شخص إيديولوجي. كان عمره 15 سنة فكيف يكون مؤدلجاً. كل ما كان يعرفه هو أن 8 و14 كانا يتصارعان «على الكرسي»، ولكنه لم يكن يعلم من الأحق بها. لم يكن يعرف ما هي الكرسي أصلاً، أو أين هي الكرسي... «بس هلق اذا رجعت صارت بنزل لأنو صرت فهمان الموضوع ومش كرمال حدا قللي انزل معو». اللافت أن حسين ما زال «ينزل».
في سهرة مؤلفة من 8 صبايا، أعمارهن تتراوح بين الـ 21 والـ25، طُرحت الأسئلة الآتية:
لماذا كنتن تنزلن؟ هل كنتن على علم بالوضع السياسي وأهداف هذه التظاهرات؟ وهل ستنزلن الآن إن تجدد الأمر؟ تحمست الفتيات للإجابة. جميعهن أكدن أنهن كن يستمتعن بالنزول. تقول إحداهن، «أهم شي انو صرنا صحبة مع بياعين العرانيس. صرنا نعرف وين كل بياع بيوقف وايه ساعة بيجي». كان «البلد ماشي» إذن. ردت أخرى: «أنا بعرف ليه كنا ننزل». سألتها صديقة بفتور... «ليه؟»، فأجابت بحماس: «كنا بدنا نسقط الحكومة». أردفت الصديقة الهادئة: «ليه؟». فأجابتها بحماس مضاعف: «السنيورة ما كان منيح وكنا بدنا نسقطو». ساد السهرة جو من الضحك. «تتذكري لما كنت حاملة العلم وعم رفرف فيه وخبطت راس اللي قدامي؟ أجابت أخرى... «منيح اللي اكتفى ببهدلة وما ضربك شي بوكس». توالت عملية استرجاع الذكريات لبضع دقائق. ذكريات وتنكيت. 8 و14. طباق لبناني. تخللت «السهرة» بين الفينة والأخرى ضحكات هستيرية تدل إلى سعادة حقيقيّة في استرجاع الماضي.
جدياً صبايا: «بترجعوا بتنزلو هلق؟» ضاحكةً أجابت احداهن: «ايه اكيد، شو في ورانا؟». اعترضت أخرى «لاء انسي المزح، أنا ايه برجع بنزل لأنو هلق صرت مؤمنة بسياسات. يمكن من عشر سنين ما كنت فهمانة شي وكنت شايفيتو كرنفال، بس هلق فهمت. أكيد بنزل». ستنزل هي أيضاً. الجميع سينزل. البلد كله سينزل. وفي السياق، لفتت «ساهرة» أخرى: «مننزل بس مش بنفس الروحية تبعت الـ 2005. يعني كنا نقضيها تسلية. ما كنا فهمانين القضية الحقيقية». فجاءها الرد: «اذا صار فيها مظاهرات هلق، بيصير في حرب سنة الجاي؟». ضحك الجميع في المنزل الهادئ بضاحية بيروت الجنوبيّة، وخرج تعليق لطيف آخر... «لأنو ماما قالت اذا وقعت بنايتنا حابة تغير لون المطبخ». وثمة آراء أخرى من خارج السهرة. رامي وكريم مثلاً. رامي (22 سنة) لم يكن يعرف شيئا عن السياسة:
«نزلت انا وأهلي مرة. كنت بعرف انو الحريري كان انسان منيح ومهم واهلي بحبوه، وقالولي انو هوليك قتلوه. أكيد ما بنزل هلق. أصلاً ما كنت بعرف شي بالسياسة وما كنت انزل لحالي. مع الوقت بلشت افهم الموضوع واكتشفت انو اهدافهم غير وسياساتهم تغيرت. صراحة هلق بطلت تعنيلي السياسة، وما بفكر انزل على ولا مظاهرة لأية حزب او تيار. كل الاشيا اللي خصها بالسياسة ما بتعنيلي. هلق بعرف ليه عم يعملو كل هالاشيا وكيف بدن يوصلو رسالتهن...».

كريم كان «ينزل» مع رفاقه، ولا أحد فعلاً يمكنه أن يفهم استخدام هذا المصطلح بالعاميّة: «نزلنا»، أو «ننزل». هل لأن الساحة صارت منزلاً للفريقين، أو نزلاً؟ لا أحد يمكنه أن يفهم. في أية حال، كان كريم يمضي وقتاً ممتعاً أيضاً:
«صراحة ما بعرف ليه كنا ننزل هلقد، ما كان في سبب معين لأنو ما كنا نعرف بالسياسة. كنا نعرف انو الحريري كان منيح وهوي كإنسان كان مقرب من العيلة، فإنو كنا نؤمن بسياسيتو. اليوم غير. اصلا اول سنتين بعد اغتيال الحريري كنت شارك بالمظاهرات، وبعدين وقفت. حسيت انو صارت كتير مسيسة وبطلت كرمال قضية وطنية او كرمال الشهيد رفيق الحريري. صارت حزبية وكرمال سعد الحريري بس...».

غوى، أيضاً، من ذلك الجيل الذي كان في «البروفيه»، يوم وقعت الواقعة، وستظل تشارك في التظاهرات، كما لو أنها امتحان. لا تفوت مناسبة جماهيرية إلا وتشارك مع خطيبها... «ولعيون الشيخ سعد». وفي المهرجان يُكرم المرء أو يُهان!