نابولي | لا تشبه علاقة سكان مدينة نابولي الايطالية بكرة القدم إلا نفسها؛ فالناس هنا يعيشون على وقع الكرة الساحرة التي قد تحوّل حياتهم الى مهرجان متواصل إذا ما نجح فريق مدينتهم في تسجيل الانتصارات. أما الخسارة فتبعاتها تلامس طقوس الموت.
في مقابلة أجرتها قناة «سكاي سبورتس» مع يايا توريه، لاعب وسط مانشستر سيتي الانكليزي، إبّان مواجهة فريقه مع نابولي في موسم 2011-2012، وصف العاجي أجواء ملعب «سان باولو» بالمجنونة والصعبة على أي خصم، خاتماً كلامه بالقول: «عندما دخلت أرض الملعب وشاهدت الجماهير، أدركت أن نابولي ليس مجرد فريقٍ بالنسبة إليهم. إنّه عشقٌ يجري في دمائهم على صورة ذاك الذي يربط أمّاً بطفلها. يومذاك كانت المرّة الوحيدة التي أبقى فيها على أرض الملعب بعد خسارة مباراة، لأنني أردت الاستمتاع بالعرض».
قد يرى البعض مبالغةً في وصف توريه لما شاهده، لكن ما أشار اليه الاخير ليس سوى جزء بسيط من علاقة جماهير نابولي بكرة القدم وبالفريق الذي يحمل اسم المدينة. من يعرفهم جيداً يُدرك أنّهم مستعدّون لفعل أيّ شيءٍ لجعل فريقهم يفوز، لأن نتيجة أي مباراةٍ وتبعاتها ستُلاحقهم طيلة أسبوعٍ كاملٍ. كيف لا وهم سيناقشون ويحللون المباراة وهم يرتشفون فنجان «الإسبريسو» صبيحة اليوم التالي، وسيكملون الحديث عنها طيلة النهار، لا بل حتى موعد المباراة التالية.

أبعد من كرة القدم

كرة القدم هنا ليست مسألةً أهم من الحياة والموت كما وصفها «الأسطورة» الانكليزي بيل شانكلي، بل هي حتى أكثر من ذلك. فلا الميول السياسية أو الخلفية الثقافية أو الاجتماعية تهم، ولا حتى الجنسية أو العِرْق أو الدين. الأكثر أهمية هو الانتماء إلى اللون الأزرق دون سواه. اللون الذي يزيّن قسماً كبيراً من المدينة ويحمل اسم إحدى ساحاتها.
على جدران المباني في «الأحياء الإسبانية»، في الساحات الواقعة في الوسط التاريخي للمدينة، وفي كل شارع تقريباً، تصادفك جداريّات للاعبين مرّوا على الفريق وشعاراتٍ لمجموعات الألتراس المتعصبين مجددةً الوفاء والعهد مع فريقها. هنا، وهنا فقط يُكتب على أبواب بعض المنازل والمحال «ممنوع الدخول لمن لا يُشجّع نابولي».
خاطب أهل نابولي الاموات في المقابر عند فوزهم بأول «سكوديتو»


الحقيقة، كثيرة هي الأسباب التي جعلت علاقة المدينة بـ«الكالتشو» خاصةً جداً. والأكيد أن لأجواء نابولي، المدينة المتوسطية، تأثيراً في جعل أبنائها يمتازون بطباعٍ أكثر سخونة وحرارة من غيرهم. هذه الميزة جعلتهم يأخذون كرة القدم على نحو جديّ أكثر من نظرائهم في أوروبا الغربية وباقي مناطق إيطاليا، ما جعل مدينتهم تعيش على وقع الساحرة المستديرة وتتنفسها كمدن أميركا اللاتينية.
لكن أسباباً أخرى تضفي أهمية مضاعفة على اللعبة الشعبية الأولى، اذ من جهة هي المتنفس الوحيد لسكان نابولي الذين أنهكتهم الأعباء المعيشية جراء الظروف الاقتصادية الصعبة في مدينتهم كما هي الحال في الجنوب الإيطالي. ومن جهةٍ أخرى، هي السبيل الوحيد للتفوّق و«محاولة الانتقام» من نظرائهم، في شمالي البلاد الغني والأكثر أهمية واستقراراً من الناحية الاقتصادية، والذين ينظرون إليهم بفوقيّة ويمارسون عليهم عنصرية بغيضة.

التاريخ يحكي الشغف

من هنا يبدو مبرراً هذا الجنون، والهوس بكرة القدم الذي تجلّى بأغرب حلله حين رُفعت لافتة على مدخل إحدى مقابر المدينة فيها رسالة إلى الأموات تقول: «لو تعلمون ما فاتكم»، وذلك بعد كسر الفريق لسيطرة أندية شمالي إيطاليا في الدوري المحلي وفوزه بلقبه الأول في الدوري موسم 1986-1987 بقيادة فتى المدينة الذهبي الارجنتيني دييغو أرماندو مارادونا.
في الموسم المذكور عاشت المدينة هستيريا، لم ولن تشهد إيطاليا لها مثيلاً، وخصوصاً بعد إضافة لقب كأس إيطاليا إلى لقب «السكوديتو»، ودائماً على حساب أغنى أندية الشمال. ما زال كثيرون هنا يروون تفاصيل تلك «الايام المجيدة» بكل فخرٍ واعتزاز. هؤلاء لم ينسوا أيضاً الأيام الصعبة التي تلت رحيل مارادونا، لكنهم لم يتخلَّوا قطّ عن فريقهم، لا سيما بعد إفلاس النادي وسقوطه إلى الدرجة الثالثة، فأظهروا إخلاصاً جعل إيطاليا برمّتها تقف مذهولة أمامه. وقتذاك، تخطّى معدل الحضور الجماهيري في «سان باولو» الارقام المسجلة في أندية الدرجة الأولى.
باختصار، كل شيء هنا يدور في فلك كرة القدم إلى درجة تجعل لاعبي الفريق في دائرة الأضواء دائماً، وهذا ما أشار إليه النجمان السابقان للفريق الأوروغوياني إدينسون كافاني والأرجنتيني إيزيكيال لافيتزي، عندما أشارا في أكثر من مناسبة إلى أنه لا مكان للحياة الخاصة في نابولي، إذ حتى الذهاب إلى المراكز التجارية للتسوّق هو أمرٌ في غاية الصعوبة، لأن الأمور ستتحول فوراً إلى تظاهرة شعبية حيث يتجمع الآلاف من أجل إلقاء التحيّة وأخذ الصور التذكارية معهما.
هذا الهدوء المفقود جعل مشجع الفريق وابن المدينة وأحد أهم مهاجمي وهدافي هذا الجيل في الكرة الإيطالية، أنطونيو دي ناتالي، يفضّل العيش في مكانٍ أقلّ سخونة وحرارة وشغفاً بكرة القدم. اختار الرجل فريق أودينيزي، الخاص بمدينة أوديني الواقعة في أقصى شمالي شرقي إيطاليا، وقد برّر خياره في مقابلة مع قناة «كانال بلوس» الفرنسية بالقول: «هو أمرٌ صعبٌ دائماً بالنسبة إلى أحد أبناء المدينة، أي اللعب مع هذا الفريق، لذا كنت أخاف ارتداء قميصه الأزرق. عندما تسير الأمور على نحوٍ سيّئ، تصبح أكثر صعوبة، وخصوصاً على النابوليتانيين، ويصبح التعامل مع الجمهور أمراً معقّداً». وختم: «كنت سأعاني كثيراً لو لعبت هناك، وهذه حقيقة. لذا رفضت نابولي وفضّلت أن أتجنّب هذه المواقف لمعرفتي بطبعي الخاص».
علاقة نابولي بكرة القدم يمكن اختصارها بالمشهد الشهير لذاك الفتى الذي بكى حزناً عند إضاعة الفريق لركلة ترجيح في مباراة الكأس السوبر الإيطالية التي جمعته مع يوفنتوس في الدوحة أخيراً، ثم عندما بكى فرحاً حين توّج فريقه باللقب. كرة القدم بالنسبة إليه ولغيره، من الأطفال والصبية الذين تصادفهم يومياً في الساحات والشوارع متّخذين منها ملاعب خاصة بهم، هي حلمهم بارتداء القميص الأزرق يوماً وتسجيل الأهداف على ملعب «سان باولو» وسماع صرخات تحمل أسماءهم بنفس الطريقة المجنونة التي احتُفل بها بأبطال وأساطير نابولي.