يحكي مخضرمون كرويون عن ظاهرة مرّت في لبنان في سبعينيات القرن الماضي اسمها كلود غوبا. ابن أحد الدبلوماسيين العاجيين اكتشفه نادي الروضة الدكوانة، وذهب بعدها ليحتل العناوين العريضة عندما لعب بقميص الراسينغ العريق، فكتبت إحدى الصحف الرومانية عنه عندما لعب مع «سندباد الكرة اللبنانية» ضد رابيد بوخارست في السبعينيات: «بيليه الصغير يلعب في لبنان».
لا يعلم هؤلاء اليوم شيئاً عمّا فعله غوبا بعد تركه الراسينغ، لكنه عَلِق في ذاكرتهم على أنه لاعبٌ خرافي كان ليصبح بشهرة بيليه لو أنه لم يعان من مشكلة في قصر النظر. هم يتفقون على هذا الامر، ويتفقون على بساطة ذاك النجم الذي سحرهم، إذ كان لا يطلب أي مكافأة على إبداعاته سوى تأمين فروجٍ له وبعض من الشوكولا.
الحقيقة، كثيرة هي المرات التي مرّ فيها بيليه من لبنان بالنسبة الى جماهير فرقٍ عدة. بيليه هذا كان دائماً صاحب بشرةٍ سمراءٍ أفريقية، وترك للكثيرين من الذكريات التي لا تُنسى. أعطى كرة القدم اللبنانية، لكن نادراً ما ردّت الجميل اليه.
بعد غوبا كان بيليه هنا بنظر محبّي فريقي الصفاء والحكمة هو الغاني عبد الوهاب سليمان الذي نادراً ما عرف المتابعون اسمه الحقيقي، فالكل ناداه فرانكي. حتى اليوم لا تزال الحكايات المرتبطة بفرانكي تدور بين المتابعين القدماء للكرة في الاشرفية. يحكون عن لاعبٍ كان بإمكانه اللعب مباراتين متتاليتين «على الريق»، وعن لاعبٍ لم يكن لديه أي مشكلة في مواجهة العواصف التي تحوّل ملعب برج حمود الى «بورة» مليئة بالوحول، فهو يمكنه الركض نحو المرمى أياً كانت الظروف. يتحدثون عن لاعبٍ لم يكن يشعر بالاصابات، وغالباً ما يتحامل عليها لخدمة فريقه. لكن في نهاية المطاف، كان فرانكي أفريقياً، فهو على غرار معظم أبناء جلدته لا تعترف بهم النجومية في لبنان، فكان حزيناً مشهد رؤيته قبل أعوامٍ قليلة يتحوّل الى ناطورٍ يهتم بعشب ملعب الحكمة في عين سعادة ويعيش حياةً بائسة في غرفةٍ متواضعة.
بيليه مرّ من هنا أيضاً في نظر أبناء صور، فكان السييراليوني محمد كالون الموهبة التي أبهرتهم، لكن هذا الاخير، رغم الظروف الصعبة التي عاشها في بدايته، قلب الطاولة على القدر، وذهب لإصابة النجومية في أوروبا حيث لمع مع إنتر ميلانو الايطالي وموناكو الفرنسي، رافضاً الاستسلام لأي ظرفٍ صعبٍ عاكسه. هو لا يزال يلعب حتى اليوم مع فريقٍ يحمل اسمه، ويحارب حتى لا يعيش أي طفلٍ في سيراليون نهاية كتلك التي حلّت بفرانكي.
وكم من بيليه كان في لبنان، وكمّ من لاعبٍ أفريقي أغنى ملاعبنا التي لم تكن وفية له أو لم تقدّر موهبته بالشكل المطلوب، وفرّطت فيها بسبب عنصرية البعض تجاه أولئك القادمين من القارة السمراء، فكانت معاملتهم بشكلٍ سيّئ، أو بسبب جهل المدربين الذين لم يقدّروا الكنز الموجود بين أيديهم.
أسماء أفريقية كثيرة تدور في فلك الذكريات وتحكي عن لاعبين كان لهم الفضل في رسم صورة جميلة للعبة. فالأكيد أن هؤلاء لن يتكرروا، أمثال ثنائي الصفاء في التسعينيات الليبيريين نييما كولينز وايمانويل هاريس، وثنائي النجمة النجيريين صنداي أوكو واديمولا اكوداسي، والهداف السنغالي ماكيتي ديوب الذي لعب للفريق «النبيذي» أيضاً، ومهاجم الانصار النيجيري موري إبراهيم، وقبلهم مدافع البرج السوداني مجدي كسلا، وبعدهم مهاجم السلام زغرتا الكاميروني بيار بويا الذي ذهب بعدها للعب الى جانب النجم صاويل إيتو في منتخب بلاده ومع بارتيزان بلغراد الصربي في دوري أبطال أوروبا.
قد تكون بعض الأسماء سقطت من الذاكرة في هذا التعداد، لكن يسقط الكثير من الاندية اللبنانية كل يوم في فخٍ أخلاقي بتعاملها غير الانساني مع أفارقة يعطونها أكثر ممّا تعطيهم. هي لا تقدّر ربما قدرات البعض منهم، ولا تدرك أصلاً أن «بيليه» قد يكون فعلاً هنا من خلال موهبة كبيرة يختزنها أحد لاعبيها السمر ولن يفجّرها أبداً في ظل المعاملة التي يلقاها.