نادراً ما يتخذ الحديث عن الجنس طابعاً علمياً في العالم العربي. المفردة بحد ذاتها، تحدث وقعاً ثقيلاً على الأذنين، وتخفت أصوات إذا همست بها، وقد تجفل عينان أو تسطعان بتطرفٍ إذا كان الحديث عن «الجنس». الجنس في العالم العربي، مادة استهلاكيّة وفانتازيّة، وفي حالات نادرة في بلادنا يرتبط بالحب، أو بالخيارات الشخصيّة. أشياء مثل هذه، وأشياء أخرى كثيرة، يتطرّق إليها باحثون في كتاب «الجنس في العالم العربي» («دار الساقي» ـ 2015) الذي أعدّه سمير خلف وجون غانيون.لا يمكن القول إنّ الكتاب شامل، ومتماسك البنية، فالأعمال فيه تتوزع على 13 باحثاً وباحثة، غير أنّه يمكن الجزم بجديّة المباحث، إلى جانب ميزة أخرى، هي استعارة أصحابها بشيء من السرد الروائي أحياناً، في معرض استحضار الأمثال. والحال، أن ثمة ما هو جديد في عالم الجنس العربي، لجهة الطرح، كمقاربة موضوع المثليين أنثروبولوجياً على سبيل المثال. يخلص سمير خلف إلى أن التجمع المثلي، ككل التجمعات في لبنان، منظم اجتماعياً. يغيب ويظهر، وعادةً يعقد علاقات اجتماعيّة معيّنة ضمن عالم المثليين وأيضاً بين ذلك العالم والعوالم المعيارية الكبرى التي تؤثر فيه على الدوام.

ويلاقيه جاريد ماكورميك في هذا، إذ يخلص إلى أن تجنب التلميح إلى أن تطور الهويّة المثليّة في لبنان يقتصر حصراً على تأثيرات وتجارب الغرب عبر هويّة «المثليّة العالميّة» كما يبدو بوضوح أن شكلاً من الهويّة المثلية الذكريّة والأنثويّة يغدو أكثر شيوعاً عبر العالم، وبيروت، هي الموقع المقابل لولوج حقوق المثليين إلى العالم العربي.
وفي مبحث آخر، لا يقل أهميّة، يرتكز ينس هانسن إلى قصة لمستشرق نمساوي، بحيث يشرع في استكشاف الأنثروبولوجيا التاريخيّة للبنية الاجتماعيّة لمدينة بيروت، والوعي الطبقي وما ترتب عنه من أحاديث استعماريّة مصاحبة. ورغم الفخ الاستشراقي الذي يقع فيه الباحث، يستطيع الاثبات أن النوازع الجنسيّة والعلاقات بين الجنسين، في بيروت القرن التاسع عشر، كانت مركزيّة، من أجل صياغة أنماط متطابقة في الطبقة الوسطى، ومن أجل الصراعات الدائرة حول النظام الأبوي وما يستتبع ذلك من هيمنة الذكورة في بيروت وجبل لبنان، بحيث يعترف ومن ناحية أخرى، أن الأحاديث عن ممارسة الجنس غير الشرعيّة والإفراط في ممارسة الجنس جلبت العادات الصحيّة الاستعماريّة إلى مسرح السياسة والتخطيط المدنيين في بيروت.
وفي «جنس» القرن التاسع عشر، الحقبة التي تتخذ حيزاً وافياً من الكتاب، وصولاً إلى الحداثة بشكلها الحالي، محطات أخرى لافتة، ربما تكون أهمّها دراسة النوازع الجنسيّة وقضية الشرف بين المهاجرين اللبنانيين. في ذلك الوقت، وفي رحلة بين ايليونز وميلووكي وسكنسون وغرين باي ووترتاون وسبرينغفيلد، يتضح أن سمعة النساء الشابات العاملات ــ اللبنانينات ــ في المؤسسات كانت موضوع ثرثرة وغمز ولمز إلى درجة أن عبارة «فتاة مصنع» أصبحت نعتاً ورديفاً للمرأة الساقطة جنسياً. وهكذا، حتى قبل أن تشق أفواج المهاجرين طريقها عبر الأطلسي إلى الأميركيتين، كان عمل المرأة خارج المنزل مصدر قلق جنسي. واللافت أن هذا التهديد خطير بقدرٍ كافٍ بالنسبة إلى الكنيسة المارونيّة بحيث تجرّب منع النساء من العمل في مصانع الحرير وذلك بنشر رسالة كنسيّة تصف العمل في المصنع على أنه أمر غير أخلاقي بالنسبة إلى النساء. صحيح أن اللبنانيين ارتكزوا إلى خطاب الطبقى الوسطى الأميركيّة للدخول إلى المجتمع، غير أن خطاب الطبقى كان مسايراً لنظامٍ أبوي لا يقل صرامة. وعلى أي حال، ليس من الضروري الإقامة طويلاً في القرية حتى نلاحظ أن «النظام الاجتماعي يعمل كآلة رمزيّة ضخمة تهدف إلى إقرار هيمنة الذكورة التي تقوم على أساسها»، كما يحاجج بورديو، في تجربة القريّة اللبنانيّة في الهجرة.
سيلاحظ الكاتب، تكرار مفردات عدة بين المباحث، رغم اختلاف مناهج المباحثين. وقد تكون الخلاصات متقاربة. على غرار هاينسن، تخلص كرستينا سالاماندرا في «عاصمة العفة: النظام الأبوي والتمييز في دمشق»، إلى أن الجاذبيّة وسبل انجازها وبلوغ مساحات لاستعراضها، تبزّ الاجراءات القيّمة الأخرى بين طبقات النخبة في دمشق، ولا تقع في مطب الاستشراق ببهتان، حين تلفت إلى أن النساء لا يملن إلى التنافس في الشرق الأوسط حصراً، بل في بريطانيا يحدث ذلك أيضاً، بريطانيا ادجوروث وأوستن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. لكن، إن كانت الهرميّة وتحويل العلاقات الاجتماعيّة والظهور الجسدي إلى سلع تحرّض المرأة ضدّ المرأة، فإن هذا يصح أكثر على أماكن تتميّز بهيمنة واسعة للذكر، كالشرق الأوسط، وهذا ما تقر به سالاماندرا.
من الواضح أن ثمة شرخاً أخلاقياً أساسياً ما زال موجوداً بين جيلين في ما يخص الحب والجنس والعلاقة الحميميّة، خاصةً بعد قراءة بحث روزان سعد خلف، عن رأي طلاب الجامعة الأميركيّة في بيروت بالجنس. وقد ينسب هذا التنافر إلى المدارس الفكريّة المتعارضة التي يُصنّف أصحابها بالـ«الرومانسيين» جنسياً، في مقابل المؤيدين للحريّة، الذين يميلون إلى تحرير الجنس من القيود الصارمة للحب، وفي الحالتين كلتيهما، مثل هذه الآراء تبقى في تضادٍ حاد مع المجموعات الاجتماعيّة المهيمنة التي تفرض أهدافاً أخلاقيّة أعلى كالتناسل والحب والعائلة على الجنس. هذا من ناحية علمية متبعة في الكتاب. أما في المشهد الحالي، فالجنس، ربما، لا يقارب إلا غرامشياً: معطى استهلاكي دسم، ومن لا يصدّق، تتوجب عليه قراءة الصحف اليوميّة.