باريس | الغابة المرسومة على الجدار، خضراء بحمار وحشي مبتسم، و«العاشقان» يتناولان الطعام بصمت مرير حَفَر هوّة ابتلعت مرشة الملح وطاحونة الفلفل الصغيرة وكؤوس النبيذ والمحارم. ومع مرور الوقت، اتّسعت لتبتلع المطعم وحيّ سان بول. لم يكن بمقدور أحدهما مدّ يد العون للآخر، إبطال مصيدة الصمت بكلمة واحدة. اللغة جِلد، يحكّ العاشق لغته بالآخر، يُغلّفه بكلماته، يُداعبه ويُلامسه، ويرعى هذه الملامسة باذلاً ما في وسعه لإطالة الحديث. غالباً ما ينظر الطفل الانطوائي إلى أصابعه وهي تداعب الأشياء ولكنه لا ينظر إلى الأشياء نفسها، شأن العاشق الذي يقع فريسة الثرثرة، لا يكف عن ملامسة جروحه.
تُلاحقني تعويذة روبرت كريلي «ضعي «أحبكِ»‏‏‏‏‏‏‏‏‏/في مكان ما‏‏‏‏‏‏‏‏‏/بين أسنانك/وعينيكِ،‏‏‏‏‏‏‏‏‏/عضّي عليها‏‏‏‏‏‏‏‏‏/ واحرصي على‏‏‏‏‏‏‏‏‏/ألا يصيبها مكروه‏‏‏‏‏‏‏‏‏/ افعلي ذلك بشغف‏‏‏‏‏‏‏‏‏/بوهن.‏‏‏‏‏‏‏‏‏/ الكلمات تقول كل شيء.‏‏‏‏‏‏‏‏‏/أحبك‏‏‏‏‏‏‏‏‏/مجدداً،‏‏‏‏‏‏‏‏‏/بعدئذٍ‏‏‏‏‏‏‏‏‏/لمَ هذا الفراغ/ليمتلئ، ليمتلئ». ماذا لو لم يمتلئ هذا الفراغ المنيع؟ هل نستخف على طريقة أوسكار وايلد ونسلّم بأن الحب العظيم امتياز الناس الذين ليس لديهم شيء ليفعلوه؟ أم نكون أكثر صدقاً وننهار أمام الجملة المكتوبة على شاهدة قبر زيلدا وسكوت فيتزجيرالد: «سنستمر، كالسفن ضد التيار، عائدين دون توقف إلى الماضي»؟
في أساطير الفلاحين الاسكوتلنديين كلمة لا تُترجم هي fey، تُطْلَق على حالة انسان يجره نحو كارثةٍ محتومة حافزٌ سريّ مبهم لا يُقاوَم مهما قُدّمت له النصائح والإغاثات، وأيّاً كانت الجهود المبذولة لتفادي الكارثة. fey صِفة «المتيّم» الذي يرى ذاته واقعة في الشرك من دون حراك، مرصودة للانهيار التام، تتصدّع صورته أمامه من دون أن يُتاح له أن يتراجع. إنه مستلب ضائع إلى الأبد. حين غنت السوبرانو ماريا كالاس «الحب عصفور متمرّد» كانت تطفر مرحاً، مستسلمة لعلاقة صاخبة مع الملياردير اليوناني أوناسيس، هجرت المسارح العالمية لتغرق في عالم الليل الملبّد وتظهر في قاعات المحاكم تدلي بأقوالها في قضية تشغيل ثروتها الضئيلة بشراكة حبيبها. بعد تسع سنوات كانت قد استنزفت صوتها وبلغها خبر زواجه بجاكلين كيندي من الصحف، لم تصدّق الديفا أن عصفور الحب هائم، غير مِطواع، يوجعُ. كتبت رسائل لا تنتهي إلى عرّابها وصلّت ليطال العذاب الخائنين. هناك لعبة تقوم على ترتيب عدد من الأطفال بفرد كرسي لكل منهم، تُعزف الموسيقى بينما يدورون بين الكراسي وتتدخّل يدٌ لإزالة واحد منها، عندما تتوقف الموسيقى فجأة، يتدافع الأطفال ليجلس كل منهم على كرسيه، يتخلف أقلهم مهارة أو شراسة أو حظّاً، ويبقى واقفاً كالغبي، زائداً... إنه العاشق.
الحب، الغيرة، الوحدة، اللّعب، الانتظار... أخذ الفيلسوف الفرنسي المعاصر نيكولا غريمالدي على عاتقه مهمة الكشف عن خفايا النفس، لكنه لم يستقِ شواهده الاختبارية من الواقع المباشر أو التجربة اليومية، وإنّما من السجلات الأدبية بوصفها تختزل التجربة البشرية الأعمق. في كتبه «تناسخات الحب»، و«بروست، فظاعات الحب»، و«بحث في الغيرة» لا يتمّ الالتفات للشخصيات الأدبية باعتبارها مجرد نماذج تخييلية، وإنّما كذوات تتمتّع بوجود تاريخي فعلي. ذاك هو الشكل الذي يتعامل به مثلاً مع أنطونيو دوريغو والفتاة التي كانت تمتهن الدعارة وتعرّف إليها في أحد أزقة ميلانو، في رواية دينو بوزاتي الشهيرة «عشق». يقع دوريغو المثقف المُرهف في حب بائعة هوى يصفها بأنها قبيحة ومخاتلة لكنه لا يستطيع الفكاك منها. الحب مستبد لا ينصاع إلى الحقائق.
لا نعشق الآخر حسب صفاته، لا نشتهيه لأنه يستحق. يدفع ريموند كارفر في مجموعته القصصية «حدثني عن الحب» هذه الفكرة إلى حدودها القصوى، يُوقع بطلته في غرام شخص مهيمن يضربها ويهينها. وحين تُربك هذه العلاقة السادو - مازوشية البغيضة المحيطين بها، تصرخ في وجوههم «قولوا ما تشاؤون، أنا أعرف أنه حب!». من قال إن الحبّ هَمُّ إسعاد الآخر؟ جعل الكاتب المسرحي البريطاني وليام سومرست - موم كتابه «عبودية الإنسان» مستوعباً صغيراً لمفارقات كشفت أنه بإمكاننا حب شخص نغار منه أو نحتقره أو نُذلّه ونُبعده عن حياتنا الحقيقية مستعيرين نبرة كافكا المُعذّبة حين يطلب من ميلينا أن تحضنه من بعيد.
في أوّل لقاء جمع أشهر أديبات القرن العشرين فرجينيا وولف وفيتا ساكفيل - ويست، دوّنت وولف في مذكراتها أن فيتا «ذات شاربين وتلبس ثياباً كثيرة الألوان كأنها ببغاء، وتبدي نعومة الأرستقراطية من دون لمعة الفنان». لكن سرعان ما وقعت في غرامها وكتبت لها «اسمعي يا فيتا اهجري رجلك، وسنذهب إلى هامبتون لنتغدى على النهر معاً ونتنزه في الحديقة تحت ضوء القمر ونعود إلى البيت متأخرتين وثملتين، وسأخبرك بكل شيء في رأسي، آلاف، ملايين الأفكار التي لا تُستحثّ في النهار، ولكن في الليل على النهر. فكري في ذلك.
أحب جان جينيه لاعب
السيرك الجزائري عبد الله بنتاجا وهربت فريدا كالو من زواجها البائس إلى أحضان المغنية شافيلا فارغاس


لم تبرأ النحاتة كامي
كلوديل من الهجران والاضطهاد بعدما شاركت أوغست رودان في إنجاز العديد من أعماله التي قُدّمت على أنها من تصميم «المعلم»


بعد التشهير بعلاقته
بلورد ألفرد دوغلاس، أُدين أوسكار وايلد وحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة، وهناك كتب «أغنية سجن ردنغ» المهيبة
اهجري رجلك كما أقول وتعالي». أندريه جيد هو الآخر بدا بهيئة مجنون أو مجرم في قطار بسكرة، حين استسلم للعبة ثلاثة مراهقين جزائريين «لاهثاً ومختلجاً» أمام امرأته التي كانت تتصنع القراءة. تعرّف أثناء رحلته تلك إلى أوسكار وايلد الذي أقنعه بضرورة أن يعيش «حسب طبيعته»، لكن مصير وايلد كان مأساوياً بعد التشهير بعلاقته بلورد ألفرد دوغلاس، أُدين وحكم عليه بالسجن مع الأشغال الشاقة، وهناك كتب «أغنية سجن ردنغ» المهيبة. وبالعودة إلى الخطابات التي استُخدمت خلال محاكمته بتهمة «الأفعال غير اللائقة»، نقرأ: «صبيي سونيتتك جميلة جداً، ومن العجيب أن شفتيك الحمراوين الورديتين يمكنهما أن تُوهبا لجنون الموسيقى والأغاني مثلما هما لجنون القُبل. روحك اللطيفة الذهبية تتحرك بين الشهوة والشعر. أعرف أن هياسينثوس الذي أحبه أبولو بجنون كان أنت في أيام اليونان..».
هل يلتجئ كيوبيد إلى القرعة عبر ورقات صغيرة مطوية يسحبها وهو مغمض العينين؟ جان جينيه أحب لاعب السيرك الجزائري عبد الله بنتاجا الذي أوحى له بكتابه «فنان الأسلاك العالية» والتشكيلية المكسيكية فريدا كالو هربت من زواجها البائس إلى أحضان المغنية شافيلا فارغاس ووصفت لقاءهما بـ «اللذة من الطاولة إلى السرير». ثمة حكايات أقل خفوتاً، لكن أبلغ في حدّتها، كالتي جمعت بيكاسو بالفوتوغرافية الجامحة دورا مار، ولنا أن نختصرها بكلمات أنسي الحاج «لن تصبحا واحداً مهما أوغَلَ بينكما العناق/ فشل الاتحاد مُؤكّد» لتهيم دورا مار حافية في أزقة باريس معتقدة أنها ملكة التيبت، وتنسحب إلى بيت ريفي بقية حياتها بعد علاج بالصدمات الكهربائية في مصح عقلي. لم تبرأ النحاتة كامي كلوديل هي الأخرى من الهجران، رغم أنها فكرت في الطمأنينة التي يمكن أن تنالها بتجنب الحياة. كانت معزولة عن العالم، قذرة ومهملة تعيش وسط جيش من القطط، حين جرّها الممرضون إلى ليل الحجز الطويل، لتظل في أرض النسيان ثلاثين عاماً لا تغادرها سوى إلى مقبرة جماعية. هي التي عانت من رهاب الاضطهاد ليس لأنها شاركت أوغست رودان في إنجاز العديد من أعماله التي قًدّمت على أنها من تصميم «المعلم» ولكن لأنها صدّقته حين كتب لها «لماذا لم تنتظريني في الأتوليه، إلى أين أنت ذاهبة؟ إلى أي ألم أنا منذور؟ هناك أوقات أفقد فيها الذاكرة فيكون ألمي أقل ولكن اليوم، ظل الألم القاسي كامناً. كامي يا حبيبتي رغم كل شيء، رغم الجنون الذي أشعر أنه يقترب مني، والذي سيكون بسببك، إن تواصل هذا الأمر. لماذا لا تصدقيني؟». العاشق يعيشُ قرب وردة تُهدّده بالذبول، يشعر بأنه منجرف في الخشية من خطر أو جرح أو هجران أو تحوّل، يصف فينيكوت هذا القلق بأنه «خوف من انهيار مُجرَّب» هناك لحظات يحتاج فيها المريض إلى أن يُقال له إن الانهيار والخوف منه الذي يُتعب حياته، قد حصل فعلاً، وكذا الأمر بالنسبة إلى قلق الحب، إنه الخشية من حداد وقع. منذ ولادة الحب ومنذ اللحظة التي شعر فيها بالسرور، ربما احتاج العاشق لمن يقول له «لا تقلق، لقد فقدتَ الحبيب».