لم تحُلْ العقود التسعة من عمر الحاجة أم عصام دون إشرافها حتى اليوم على «كركة» تصنيع ماء الورد. لا تزال تصرّ، مع كل موسم ورد في بلدتها قصرنبا البقاعية، على تنشّق عبق الورد المكدّس، وإضافة لمساتها على طريقة تصنيع ماء الورد المقطّر. تعدّ خطواتها البطيئة لدى خروجها من منزلها إلى غرفة التصنيع المجاورة، حيث «الكركة» و«العروس» (عبارة عن وعائين نحاسيين، الأول للاستعمال على النار، والثاني أسطواني الشكل يوضع داخل المياه الباردة للتقطير).
عمر هذين الوعائين «من عمر الورد بالضيعة»، تقول الحاجة فاطمة الديراني، وهي تؤكد امتلاكها صور الماضي البعيد لبلدتها قصرنبا، ولـ«مهرجان الورد الموسمي فيها. إذ يتحول كل فرد في البلدة، صغيراً وكبيراً، إلى ما يشبه النحلة. يأخذ الوردة مع رحيقها ويصنع منه ماء الورد الطيّب مثل العسل».
في ذاكرة الديراني صورة لأربعينية القرن الماضي أيضاً. تحكي عن أم عثمان، إحدى سيدات البلدة التي اشتهرت بطريقتها في تحضير ماء الورد بالطرق القديمة، «بواسطة طنجرة الإسطنبولي، والتي كانت تعتمد فيها على غطاء الطنجرة المجوّف والمقلوب، وعلى صحن وطاسة وحجر، لتصنيع أطيب ماء ورد، وتجود فيه على كل من يطلب وغالبيتهم من مرضى رمد العيون».
توغل العينان الغائرتان أكثر في صور الماضي، علها تنبش تاريخ نبتة الورد في قصرنبا. أغلب الظن بحسب رأيها، أن عمر النبتة يفوق الثلاثة قرون. خبرت ذلك من أحاديث آبائها واجدادها، ومن أن «أصل النبتة يعود إلى إيران، وقد أحضرها معهم زوّار العتبات المقدّسة».
طلبات المزارعين تنحصر
في حمايتهم من الاستيراد خلال الموسم

تروي أنهم حملوها معهم في بداية الأمر للاستفادة من زينتها، ومن أشواكها التي تشكل سياجاً طبيعياً لحماية مزروعاتهم من دخول المواشي إليها، «لكن سرعان ما تطور الأمر مع تعرّفهم إلى ورود تلك النباتات ورائحتها الزكيّة، واكتشاف طريقة تصنيعها واستعمالها كدواء ولصنع الحلويات».
لا تزال قصرنبا إلى اليوم وفيّة لتراث الآباء والأجداد. حرص أبناؤها على مدى العقود الطويلة الماضية، على توارث وزيادة عدد الحقول المزروعة بالورد، رغم عدم اهتمام الدولة بالزراعة والصناعة الواعدة. اليوم تحتل حقول الورد أكثر من 30 % من الأراضي الزراعية للبلدة، بحسب رئيس بلدية قصرنبا عبد الكريم الديراني. في الفترة الممتدة من منتصف نيسان وحتى نهاية شهر أيار من كل عام يبدأ «مهرجان الورد» في قصرنبا، وتغدق الحقول البعلية في تلال البلدة بما يزيد على 150 طناً من الورد العالي الجودة، «والأشهر بين إنتاج سائر حقول الورد في البقاع والمناطق اللبنانية». فقد أنجزت لجنة من المهندسين الزراعيين دراسة عن زراعة الورود وصناعتها في لبنان، وأخضعت عيّنات من ورود قصرنبا لفحوص واختبارات، بالمقارنة مع ورود الضنية والقرى المجاورة في البقاع، ليتبين أن ورود قصرنبا تتمتع بخواص مميزة وأهمها الكثافة» يقول الديراني.
إلا أن اللافت أن كمية الورد، وما عدا تلك الكمية التي تباع «خضير» لتجار الحلويات، (تقارب نصف الكمية)، يتم تصنيعها في منازل قصرنبا وعدد من المصانع فيها. أكثر من ثلاثين عائلة في البلدة يصنّع أفرادها إنتاج حقولهم من الورد، بواسطة «الكركة المنزلية كمونة بيتية بلديّة، وللزبائن الذين يعرفون طعمة تمّهم»، يقول وهيب السيد، أحمد أحد مزارعي ومصنّعي ماء الورد في قصرنبا. يصرّ الرجل على أن ورد بلدته يتميز عن غيره من حقول الورد، برائحته القوية وكثافته، بالنظر إلى تربة «الحوّار» البيضاء غير الرطبة (عكس القرى المجاورة)، وإنتاج ماء ورد من أجود الأنواع وبمعدل 700 غرام من ماء الورد نخب أول، من كل كيلو ورد. يستند السيد أحمد في رأيه إلى خبرته الطويلة التي امتدت ما يقارب الثلاثين سنة، فضلاً عن «تفضيل تجار أكبر وأقدم محال تصنيع وبيع الحلويات في لبنان لماء الورد البيتي المصنّع في قصرنبا، بدلاً من المستورد من الخارج».
تنتج بلدة قصرنبا أكثر من 4 أطنان يومياً من الورد خلال موسم الإنتاج الذي يمتد من منتصف شهر نيسان حتى أواخر شهر أيار. وما إن يبدأ إنتاج ماء الورد البيتي حتى يتهافت أبناء القرى والمناطق اللبنانية على شراء ماء الورد المقطّر، في حين يسجل طلب كبير بحسب السيد أحمد، من زبائن معروفين من أبناء قصرنبا من «فرنسا وفنزويلا وأميركا وكندا».
وعلى الرغم من نجاح زراعة الورد، وصناعة ماء الورد المقطّر الواعدة، والتي تشهد انتشاراً في قرى تمنين ونيحا وشمسطار وطاريا ومزرعة بيت صليبي، «إلا أن الدولة لم تُعر القطاع الأهمية اللازمة ولا الدعم والحماية الجمركية»، كما يؤكد رئيس البلدية. يكشف الديراني عن محاولات عدة مع وزارة الزراعة للمساعدة في تصريف الإنتاج ومساندة مزارعي ومصنّعي الورد المقطّر، «لكن من دون جدوى، علماً أن طلباتنا تنحصر في حمايتنا من استيراد الدولة للسائل المركّز (Essence) من الخارج خلال فترات معينة وخصوصاً عند الانتهاء من تصنيع إنتاجنا».
لا ينحصر الأمر هنا، فأهالي قصرنبا وسائر القرى التي تزرع الورد وتصنّعه، «يحمّلون المسؤولية لجهة عدم الدعم حتى بإعلان زراعة الورد وتصنيعها في قصرنبا والمنطقة، والترويج لها من خلال معارض محلية وخارجية، يتم الكشف فيها عن منافع ماء الورد النخب أول سواء من الناحية الطبية (لعلاج رمد العيون) أو لتصنيع الحلويات وتركيب العطور».
قصرنبا لا يبدو أنها ستتخلى عن الورد وزراعته وتصنيعه، فهو إرث يصرّ أبناؤها على تناقله جيلاً بعد جيل، ويمكن تلمّس ذلك من خلال اتساع رقعة الحقول التي تزرع بالورد، ومن دفع أبنائهم للتخصص في مجالات التصنيع الغذائي، فضلاً عن ازدياد عدد العائلات التي تشتري «كركات» تصنيع ماء الورد، وتعليم طرق إعدادها والتحضير والتصنيع «على أصوله» للأبناء وحتى الأحفاد.