حينما تقودك حشريتك للتعرّف إلى عبد الرحمن شماعة عن كثب، ستجد كثيرين ممّن سيرشدونك إلى عنوانه في الطريق الجديدة. في الطبقة الثانية من بناء متواضع، يحمل باب شقته لافتة تفيد بأن دوام العمل هو من العاشرة صباحاً حتى الثامنة مساء، وأنّه يجب عليك خلع زوجَي حذائك قبل الدخول. تمتثل للأمر، قبل أن تجتاز ممراً متواضعاً تحجز صورة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مكانة فيه، وأخرى بالأسود والأبيض لإحدى أسواق وسط بيروت المندثرة.
ثم ما تلبث أن تدخل غرفة معتمة تتضمّن سريراً مكسوّاً بغطاء يذكّرك بخيرات «سوق الحميدية» الدمشقي، فيسارع الثمانيني، الذي استقبلك، إلى تحسّس يدك معتقداً أنك مصاب بوهن في العظام.
ولكن، عندما تطلعه على مقاصدك، سيتردّد بعض الشيء، فيما أنت تتأمّل عشرات الصور الخاصّة بالمدينة، والملصقة من دون ترتيب على الجدار خلف السرير، و«بورتريهات» لأشخاص عديدين ترجّح أنهم من عائلة المالك، وتعاين عدّة المجبّر من رباطات الأيدي والأرجل الصينية الصنع، فيما تنسلّ خيوط الشمس الخجولة من النافذة مخلّفة غباراً في الفضاء، وعاكسة وهجها على نظارة ثمانيني أبيض البشرة وقصير القامة وقوي البنية. يشي تنفسه المتقطع بمعاناته من الربو، وصوته المتهدّج بآثار سنيه.
إقناع الرجل بأهمية حفظ شهادته لن يطول، وكذلك خفة الظل التي ستخيّم على كلام شماعة المطرز بذكر الله، والغارق في التفاصيل. سيرته تشهد على تواريخ من سوق النورية. يحكي عن مراهق عامل يسخّر جسده في حمل بضائع معلّمه أحمد صبح، الذي كان يغذي الفنادق والمستشفيات والمحال بالخضر والفاكهة. كان المراهق يبدأ آنذاك نهاره في الثالثة فجراً، ولا يغادر المحلّ إلا مع تباشير المساء.
سيرته تشهد على تواريخ من
سوق النورية حيث عمل حمّالاً


تعلّم سرّ الكبيس وبقي يصنعه
إلى أن أصيب جهازه التنفسي


راقب خاله طويلاً حتى ورث
منه مهنة تجبير العظام

في زمن الأسود والأبيض، حين كانت القناعة كنزاً لا يفنى، وليرات الراتب تُقبّل وترفع إلى الجبين، والحمدلة على اللسان في كلّ آن، دفع الجهد المضني بشماعة، الذي غدا شاباً، إلى طلب ليرة لبنانية إضافية على معاشه فقوبل طلبه بالرفض من المعلّم صبح، ما دفعه إلى الاستقالة! يقصّ شماعة الذكرى الحزينة بتأثر، كما لو أنها حدثت أمس. يكرّر واقعة الليرة، التي دفعته إلى المجيء حتى صبرا، السكن البديل للمهجّرين الفلسطينيين حصراً حينها، لبيع الخضر. وهناك، ستثير حاجة خالد العالي، مالك المطعم الشهير في الصيفي إلى كمّ كبير من الخضر لصناعة المخللات، حمية شماعة. وسيفرز عن تلبية حاجة العالي، نقل سرّ الكبيس إلى شماعة الذي سيشرف بعدها على هذه الصناعة الغذائية في دكانه الشهير، إلى أن يُصاب بمشكلة في جهازه التنفسي.
يطيل الرجل في سرد أسس التخليل، وكيفية ضبط مكوّنات الكبيس، وعلى رأسها الملح البحري والخلّ، والأهم الحؤول دون تسلل الهواء إلى «برطمانات» أطايبه.
الجزء الأهم من سيرة من عاصر الفرنك الفرنسي، وتحوّلات بيروت الحنة والأمان، يعود إلى افتتانه بمشهد تحلّق الرجال في محلّ خاله، كاوي الطرابيش، الكامن في خان البيض. كان الأخير يضع بين الفينة والأخرى المكواة جانباً، ويقوم بجبر خلع مفصل من يقصده، فيقابل بالدعاء بطول العمر والرزق، ويحظى بصيت باهر بين الجموع حوله. مراقبة الناشئ عبد الرحمن الطويلة لخاله أورثته مهنة عُرف كثيرون بأدائها في ضواحي بيروت، ومنهم عضيمي وجرجورة. لكن حين تسأله عن أسماء زملائه، اليوم، يمازحك بالقول إن «شماعة» هو الوحيد في الطريق الجديدة ومحيطها.
بين الأمس واليوم، لم تطرأ تبدلات كثيرة على فنون جبر العظام. فشماعة، ما إن يلمس طرف من يقصده من المرضى، حتى يعرف العلّة. فإذا ما كانت كسراً، أو شُعراً في العظم، تخلّى عن مهمته للطبيب الاختصاصي. وكلّ ما عدا ذلك، من ليّ المفاصل، أو تشنّج العضلات، أو زحل «صابونة» الركبة... يداويه بمرهم “بلسم الآلام” السوري الصنع، الذي استبدله بزيت الزيتون، ويثبت ما انحلّ بربطات الشاش، ويهدّئ الآلام بـ«الباراسيتامول» الأرخص بين المسكنات.
ستون سنة لم يواجه في خلالها شماعة أي مراجعة مشككة أو معاتبة له، وهو المداوي بالتمسيد، على بركة الله.
في مسيرة «الحكيم»، الذي استهلّ عمله منذ ستين سنة، كان المرضى يهدونه السبحات، وسجادات الصلاة، وصناديق الحلوى، لقاء مداواتهم. ثم، باتوا يدفعون له المال، فيدسّون العملة الورقية تحت مخدته، بخفر، لكنهم أمسوا اليوم يعطونه إياها باليد!
أطفال وراشدون من اللبنانيين واللاجئين هم مرضى شماعة، فئات مجتمعية عدة لا توفّر الموظفين المكتبيين، وهؤلاء يأتونه خصوصاً للتخلّص من آلام «الوتاب» التي تنخر رقابهم كما يفعل السوس بالخشب، بهدف توفير نفقات جلسات العلاج الطبي المرهقة لجيوبهم.
في سيرة الرجل الذاتية تأريخ لتحولات المدينة الاجتماعية، فليس أبلغ من إشارته إلى صورة زوجته الراحلة على كشف تبدّلات بيروت! يدلّك على صورة امرأة متأنقة تبدو كأنها في حفل، ويبتسم بزهو فيما يخبرك عن أوجه الشبه بين محيّا أسمهان ووجهها، معدّداً صفاتها وأولاها مهارتها في الخياطة.
أُغرم عبد الرحمن بالجارة كوثر، وتزوجها، فأثمر حبهما أولاداً ستة. إلا أن القدر شاء أن يخطفها منه، إثر انفجار طال البناية، حيث شقتهما، في بداية الثمانينيات. تكاد تلمس حرقة في كلامه عن فقدها، لكنك لا تتوانى عن كتم ضحكتك بعد دقائق تالية لسؤالك إياه عن اسم زوجته الثانية، جرّاء طول تفكيره قبل أن يطلعك عليه.
عيناك المتفحصتان دقائق المكان ستجعلك تدرك أن شيئاً من أجواء مسلسل «باب الحارة» حاضر فيه، وذلك في أمر انفصال الزوجة عمّا يدور في غرفة «الحكيم»، وانكفائها عن دورة يوميات «العيادة»، وحتى عن فتح باب المنزل الخارجي، الذي تنتظر طويلاً أمامه قبل أن يتحرّك مصراعه... كانت بيروت متألقة تحتل النهارات بنشاطها والليالي بحضورها المحبب، أمست تحتجب خلف الباب منتظرة أن ينفضّ الجمع عن مطرحها!
تغادر الشقة المكدّسة فيها الصور والذكريات، خالصاً إلى أن ناس المدينة مهما تبدّلوا يأبوا خلع لبوس البساطة.