في إطار من التشويق الفكري الممزوج بالحنكة في نص الحوار، يستعيد المخرج النروجي مورتن تيلدوم في The Imitation Game (لعبة التقليد) المرشح لثماني جوائز أوسكار سيرة عالم الرياضيات البريطاني الشهير آلن تورينغ الذي كان أوّل من مهّد للذكاء الاصطناعي، أو ما عُرف لاحقاً بجهاز الكومبيوتر. وذلك عبر الآلة التي اخترعها لفك الشيفرات النازية أثناء الحرب العالمية الثانية. ولعل أكثر ما يميّز هذه السيرة الذاتية هو الابتعاد من تمجيد الأبطال والأحداث.
فشخصية تورينغ كما يتناولها تيلدوم ويؤديها البريطاني بنديكت كومبرباتش ببراعة بكل تناقضاتها، تبقى ملتبسة بالنسبة إلى المشاهد حتى اللحظة الأخيرة. الشريط يبدأ إبّان الحرب العالمية الثانية وتجنيد الاستخبارات البريطانية لتورينغ لحل معضلة «إنيغما»، الآلة المعقدة التي يعتمد عليها النازيون لتبادل الرسائل المشفرة. أما قرار تورينغ بالانضمام إلى الاستخبارات، فليس نابعاً فعلياً من اهتمامه بالسياسة. وهو مجال يلا يفقه عنه شيئاً، وفق ما يقول للجنرال في بداية الفيلم، مؤكداً أنّ هدفه الوحيد هو حل أحجية «إنيغما» المستعصية، بعد فشل باقي العلماء.
خلافاً لغيره، يرى العالم البريطاني أنّه بإمكان الآلة وحدها هزيمة آلة أخرى. طرح اعتبر في تلك الحقبة بمثابة هذيان، فكيف لآلة أن تحل ما لم تقدر عليه أعظم العقول البشرية؟ رغم المعارضة، يتمكن تورينغ من الحصول على موافقة ودعم رئيس الوزراء وينستون تشرشل لبناء الآلة العملاقة التي يُطلق عليها اسم «كريستوفر» تيّمناً بأوّل صديق له في المدرسة، وأوّل حب في حياته.
لاحقاً، يعود المخرج إلى طفولة العالم ليحلل نشأة هذه الشخصية المضطربة، مصوّراً عنف واضطهاد بقية الأطفال له بسبب اختلاف طبعه، وتدني مهاراته الاجتماعية. فمفهوم التواصل بالنسبة له أشبه بالشيفرات التي لا يتمكن حلّها، كما يشرح لصديقه «كريستوفر» في أحد المشاهد، متحدثاً عن عجزه عن فك المعاني المبطنة في استخدام البشر للغة.
البورتريه الذي يرسمه تيلدوم لتورينغ متبنياً وجهة نظر حيادية، قاسية أحياناً، تتماهي مع عقل المخترع العلمي البحت. عقل لا يبدي أي تأثّر عاطفي، ويطمح كما يبدو لمشابهة الذكاء الاصطناعي للهروب من الألم الذي لا يمكنه مواجهته. فالتواصل العاطفي الوحيد الذي نلمسه هو بين تورينغ وآلته التي تحمل اسم الشخص الأول وربما الوحيد الذي أحبه. حتى أنه بعد موت «كريستوفر»، نرى في المشهد الذي يتلقى فيه خبر وفاته أنّ تورينغ ينكر معرفته به، خافياَ مشاعره نهائياً. أما الشخصية الوحيدة التي تحرّك العالم البريطاني هي «جون» (كيرا نايتلي) التي يختارها للعمل معه في حل أحجية «إنيغما»، ويتزوّجها شكلياً لتتمكن من الإقامة والعمل بمفردها بين الرجال. ويبدو اتفاق الثنائي نابعاً من خصوصية الحالة الذي يمثلها كل منهما في مجتمعه؛ «جون» هي إمراة غير تقليدية، وآلن مثلي الجنس.
نقطة قوة الفيلم هي وجهات النظر المتناقضة التي يقدّمها من دون محاكمة أي منها. فبعد نجاح تورنيغ في فك شيفرة «إنيغما»، يقرر ألا يبلغ عن كل الهجومات النازية المرتقبة، لأن من شأن ذلك أن يثير شك الألمان ويدفعهم إلى تغيير الشيفرة مجدداً. وتبعاً لحسابات رياضية دقيقة يجريها وفريقه، يجرى تزويد الاستخبارات البريطانية بجزء من المعلومات التي قد تساهم في إنهاء الحرب وانتصار الحلفاء. رغم ذلك، يؤكد المؤرخون أنّ مساهمة تورينغ في حل «إنيغما» أدت إلى إنهاء الحرب قبل سنتين، الأمر الذي تقوله «جون» لآلن في نهاية الفيلم، مؤكدة بطولته وصواب قراره. وكأنّها وحدها تعرف إحساس الذنب الذي يأكله من دون أن يعبّر عنه. ذنب العقل العلمي المحض. رغم كل الإنجازات التي حققها، يُحاكم تورينغ بسبب مثليته الجنسية، ويُجبر على الخضوع لعلاج الهورمونات البديلة، ما يؤدي به إلى الانتحار. في ظل الضغوطات، يرفض آلن إنكار مثليته، كما تطلب منه «جون»، محاولةً إنقاذه. ويأتي المشهد الأخير المؤثر لتورينغ وهو يبكي لأنّه غير قادر حتى على حل أحجية بسيطة بسبب تأثير الأدوية، إثباتاً لعنف الذكاء الإنساني الذي لا مثيل له.