نزلَ المطرُ مُتثاقلاً في شارع «جبل العرب» فبدا الأخيرُ وادِعاً فوق العادة. الأنوارُ الخافتة الآتية من البيوت ذات الطلاء الأبيض الباهت تُشير إلى أُلفة في المكان وأهله. يعرفُ ساعي البريد عنوانه جيداً: ففي الشّارع البيروتيّ عددٌ كبير من الشخصيات والمراكز الإعلامية والسياسية والثقافية والنقابية، بعضها معروف وبعضها الآخر طواه الزمن. هُنا سكَن كلٌّ من جورج حاوي ومحسن ابراهيم لسنوات طويلة قبل أن تضع متفجِّرةٌ غادرة حدّاً لحياة الأوّل على بعد عشرات الأمتار، فيما غادر الثاني المسرح السياسيّ وأقام في الخارج. وقبلهما أقام شفيق الحُوت طويلاً حتى رحيله قبل سنوات.
هناك أيضاً مكث سِرَّاً رجال «الجيش الأحمر الياباني» قبل أن يعتقلوا ويرحّلوا لاحقاً، وآخرون كثر غيرهم. أقلُّ من أربعمئة متر فقط هو طولُ الشارع. ولكن، في كلّ متر مُربَّع منه، يختزن ماضياً يطول لعقود لم تتمكّن رياح الحرب وأحداث السنوات الأخيرة من العبَث بنسيجه الاجتماعي والوطني.
على الشّرفة المجاورة للشّارع وبالقرب من شجرة «فِتنة»، يقتنصُ أديب عجيب فرصة الصَّحو الموقّت ليلقي التحيّة على جاره في المقلب الآخر. ليس معروفاً مَن يسكنُ مَن، أبو بسّام أم «شارع جبل العرب»؟ وُلِد الرّجل عام 1931 وما زال هنا. يومها لم يكن في الحيّ سوى هذا البيت. «كنا ننظر ناحية الشرق فيبدو لنا الملعب البلدي في «الطريق الجديدة» و«سينما سلوى» في البربير!
في المنزل الذي تعود ملكيته لآل الزهيري، كبرى عائلات المنطقة، يقول أبو بسّام كلاماً كثيراً عن الماضي الجميل، فيما تروي الصور القديمة المعلّقة حكاياتٍ لألفِ ليلة وليلة: «لم يخضع المنزل الذي يعود عمره لأكثر من مئة وعشرين سنة إلى أيّ عملية ترميم». البيت المُشيّد من الحجر الرملي الصلب «يحمينا من برد الشتاء وحرِّ الصيف». ما يدعو إلى الأسف لدى أبو بسام أن المنزل سيكون أثراً بعد عين في الأشهر القريبة: «باعوه»!

بيت بمنازل كثيرة

قبل عام 1956 كان الشارع مجرّد «كرُّوسة» مليئة بالرمال ونبات الصبّار وبعض أشجار الليمون.
في الثلاثينيات كان الشارع يطلّ على الملعب البلدي وسينما سلوى


أعطى مركز الحركة الوطنية قيمة مضافة للشارع أيام عزّها



شُقت الطريق في أواخر الخمسينيات تزامناً مع تدشين «كورنيش المزرعة» في عهد الرئيس الراحل كميل شمعون. ومنذ مطلع الستّينيّات بدأت حركة العمران تزحفُ ببطء إلى الشّارع الواقع في منطقة المصيطبة العقاريّة.
لم يحمل الشارع اسمه الحالي إلّا في أوائل السبعينيات كما يشير المختار رفعت الزهيري. يلفت المؤرخ حسّان حلاق الى أن المنطقة التي يقع فيها الشارع تجمع «خليطاً درزياً» من بيروت والجبل، إضافة إلى عدد قليل من دروز حوران الذين أتوا إلى بيروت كعمّال ابّان عهد الاستقلال. «لعلّ التسمية جاءت من هناك»، يقول حلاق. لاحقاً لم يعد الدروز أكثرية مطلقة في الشارع، بل صاروا جزءاً من «الفسيفساء» الطائفية والمذهبية والقومية: سُنّة وشيعة ومسيحيون موارنة وأرثوذكس إضافة الى «الأكراد» الذين تقلّص عددهم عن السابق.
أعطى مركز «الحركة الوطنية» قيمة مضافة للشارع أيام عزّها (مركز «التقدمي الاشتراكي» حالياً) فصار محطّة شبه دائمة لكثير من السياسيين وعلى رأسهم كمال جنبلاط وياسر عرفات. المبنى المجاور لم يقل رمزية، فهو كان يضمّ، إضافة إلى بيت محسن ابراهيم (الأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي المنحلّة)، مكاتب لجريدة «بيروت المساء» التي توقّفت عن الصدور منذ زمن، والمركز الرئيسي للحزب الشيوعي اللبناني. وعلى بعد أمتار قليلة، في المبنى المطلّ على الشارع لا يزال بيت جورج حاوي (الأمين العام السابق لـ«الشيوعي») حيث تقيم إلى الآن زوجته طبيبة العيون سوزي ماديان.
يتذكّر أحد جيران الشهيد حاوي كيف كان الأخير يتّخذ زاوية الشرفة صباحاً لممارسة القراءة والكتابة يومياً. يتحدّث عن علاقة حاوي المميّزة مع أهالي الحي، لافتاً إلى أنه أعطى ثلاث منح دراسية لطلاب من أهالي الحي إلى «الاتحاد السوفيتي» السابق. في آخر الشارع ، في مبنى «النجدة الشعبية» الذي يضم عدداً كبيراً من العيادات الطبية، كان هناك بين طبقاته، يوماً ما، عددٌ من المقار لجبهات تحرّرية أفريقية!

عائلة كبيرة في شارع صغير

لعلّها مفارقة أن يتحدّث أهل «جبل العرب» بلغة واحدة تقريباً عن شارعهم. هو «راق وبسيط في آن» بنظر بيان نويهض التي تسكن هناك منذ عام 1963. توضّح المؤرخة المعروفة (زوجة شفيق الحوت): «بسيط في شكل حياته وطيبة أبنائه ولكنه يضم خيرة من أبناء بيروت وبعض الدول العربية. لا هو للأغنياء ولا هو للفقراء بل لكليهما معاً»! وهو برأي عصمت عبد المجيد (أمين عام جبهة التحرر العمالي التي تتّخذ مقراً لها في الشارع منذ الثمانينيات) «نموذج عن بيروت التي نحِب».
«شارع متنوّع ومتعدد مذهبياً وقومياً وطائفياً»، يقول وليد عربيد استاذ العلاقات الدولية ابن «المنطقة» التي نشأ فيها. «الشارع» فاجأ الإعلامية المعروفة صونيا بيروتي عندما قدمت للسكن فيه أول مرة عام 1968: «فيه كلّ الالوان والأشكال». أما رئيفة زهيري التي يقع منزلها عند أول الشارع لجهة ملعب «الصفاء» فتقول: «نحنا هون من عشرين سنة ومبسوطين. لديّ عائلة وبيت وحديقة ومحترَف أشغال صناعة بيتيّة وزبائني يأتون من كل المناطق».
يؤكّد ماهر العرواي الذي تقيم عائلته في «جبل العرب» منذ عام 1960 الطابع العائلي للشارع: «كلنا عائلة واحدة». في السياق ذاته يتحدث خليل مشيرفة (صاحب محل حلاقة) عن روح الشارع «البعيدة عن التعصّب المذهبي والطائفي». بينما يعتبر وسام مكّي (صاحب الدكان الاشهر في الشارع): «الشارع له طابع علماني»... يصمت الشاب قليلاً ليقول: «ثمّة حذر بين السكّان لم يكن موجوداً من قبل، ولكن مع ذلك يبقى الشارع متميّزاً عن سواه لناحية أسلوب الحياة فيه».

«كافيتريا الإذاعة والتلفزيون»

تتذكَّر كلٌّ من أمل حميّة ونداء شريم العاملتين في «صوت الشّعب» منذ 26 عاماً كيف كان مدخل الإذاعة مُحاطاً خلال الحرب بسواتر رمليّة ونقطة حراسة وبالقرب منها كان ثمّة «جنينة» صغيرة. تقف نداء في المكان ذاته وإلى يسارها «الكافيتريا» الحالية. في الداخل، ثلاثة مقاعد خشبية يتّسع كلٌّ منها لأربعة أشخاص إضافة إلى «بار» موازٍ لعشرة أشخاص وآخر لخمسة. صورة «الرمز غيفارا» محفورةٌ في سقف المقهى الذي أعيد تشييده قبل سنة ويديره الزوجان نزيه سركيس وغيفارا شليل منذ عام 2000. تُباهي غيفارا المولودة في قطّينة (حمص) بالطبق اليوميّ الذي تقدّمه لزبائنها الدائمين: «بعض الأطعمة المتبَّلة لدينا لا مثيل لها في أي مكان آخر». ماذا عن «ساندويتش» البطاطا المشوية؟ تقول غيفارا: «هذا من اختصاصنا فقط»! في المقهى الصغير الذي تحوَّل لملتقى شبابي، يشير نزيه إلى عشرات الوجوه الإعلامية والسياسية والثقافية التي مرَّت من هنا: «كتار ما بينعدُّوا»! على مسافة عشرات الأمتار من «الكافتيريا»، مقهى آخر... بلون مختلف! شباب معظمهم من «أولاد الحي» يلتقون يومياً وبينهم عدد من نجوم كرة القدم اللبنانية.
يتأهّب رجلُ الأمن الواقف عند مدخل «تلفزيون الجديد» لدى وصول شخصية سياسية إلى المبنى. في وقت سابق تذمّر بعض السكّان من الإجراءات الأمنية للمحطة التلفزيونية لكنهم تفهّموا الأمر لاحقاً. يدين هؤلاء لـ«الجديد» بأنه أعطى الشارع حيوية إضافية منذ تأسيسه. ويدين التلفزيون لأهل الحي بأنهم اعتبروا موظفيه جزءاً لا يتجزّأ من «عائلتهم». المبنى ذاته المؤلّف من اثنتي عشرة طبقة يضم أيضاً «صوت الشعب» و«دار الفارابي» للنشر وجريدة «النداء».
في وقت لاحق، عاد المطر للهطول في «شارع جبل العرب» ولكن بغزارة هذه المرَّة. لزم أبو بسَّام بيته مجدّداً وهو يدرك أن هذا «الشتاء» سيكون الأخير له في البيت العتيق... أما غداً فيومٌ آخر!