الثلوج في قاموس البقاعيين عبارة عن «تراث شتوي»، أو قل إنه تقليد يدخل في يوميات كل عائلة ومنزل. لهذا «التراث» استعداداته وتحضيراته اللازمة له. ثمة ما هو أشبه برابط ود بينهما حتى بات أمراً لا بدّ منه، تكتمل به لوحة الفصول والمواسم كما شاءت الطبيعة. «زينة» العاصفة الثلجية التي انحسرت أخيراً، أعادت للبقاعيين ذلك «التراث» الذي ظنّوا أنه اندثر، وافتقدوه في السنوات القليلة الماضية. استفاقوا فجأة على ثلوج تحتل الأماكن على امتداد سهل البقاع من جرود سلسلته الغربية إلى أعالي تلك الشرقية، وبسماكة تبدأ من متر وتنتهي بثلاثة أمتار كما في اليمونة وعيناتا وحام ومعربون وغيرها من القرى. هكذا اختفت معالم الطرقات والدروب الضيقة، وبات التنقل بينها حكراً على بعض الصبية والشبان، يتنقلون بين الأحياء والمنازل المتقاربة، رغم استمرار تساقط الثلوج.

يحيي الجار جاره «كيفكم بهالخير؟»، ثم يسأله عن احتياجاته، وما إذا كان المرض قد ألمّ بأحدهم، لتتضافر الجهود من أجل تقديم المساعدة، وتأمين نقله إلى أقرب مركز طبي، خصوصاً أن قرى بقاعية عديدة ما زالت من دون مستوصف صحي، كما هي حال قرى بيت مشيك في غرب بعلبك، وأقرب مركز طبي إليها يبعد ما لا يقل عن 20 كيلومتراً.
«حصار الثلوج متعة، لأنه في غياب الثلج بقاعاً يكون هناك خطأ في الطبيعة». يقول حسين الحسيني، الرجل الأربعيني، وهو يجرف الثلوج من على مصطبة منزله في بلدة شمسطار. كيف لا تكون الثلوج متعة، وقد أغدقت على الموظفين قبل طلاب المدارس والمعاهد والجامعات عطلة طويلة لمدة أسبوع كامل، فيما ما زالت متواصلة بالنسبة للمدارس.

المخلوطة والرشتا

عائلات تحدّت تساقط الثلوج وخرجت لالتقاط الصور التذكارية. فيما البعض الآخر يسارع في نقل كميات من الحطب أو مازوت التدفئة من مخزن هنا، أو غرف خارجية هناك، قبل حلول الظلام واشتداد العاصفة. بين هؤلاء جميعاً ثمة من لا يفارق وجاق غرفته ودفئها، كما هي حال السيدة سعاد حمية. ربّة المنزل التي تكاد لا تهدأ وهي تنظم أولويات ومتطلبات منزلها، من غسيل وطبخ، وما بينهما من حاجات أولادها الخمسة. «خليها تتلج... اشتقنا للتلج، والخير اللي بيجي معه ومن بعده... من سنين ما شفنا متل هالتلجة». تقول حمية وهي تضع اللمسات الأخيرة على طبخة شتائية من «العيار الثقيل». إنها «المخلوطة» أو «السبع حبوب» كما تسمّيها، «هيدي الأكلة ما منطبخها إلا وقت بتشتي التلج، لإنها غنية بالفيتامينات وبتعطي دفا»، تقول في الوقت الذي ينتظر فيه أبناؤها بفارغ الصبر وجبتهم الدافئة. يتدخل الزوج «أبو علي» في الحديث عن الوجبات التي ارتبط اسمها بالشتاء والثلج. «من إيام جدودنا وأهلنا ربينا ع هيك أكلات تعتبر من تراثنا، ومش بس هيك، هيي وجبات دسمة وغنية بالطاقة، وكفيلة باللي بياكلها إنه يطلع يشتغل بالتلج من دون ما يشعر بالبرد والصقيع».
إذاً «المخلوطة» هي الطبق العابر للأجيال. يستهوي الصغار قبل الكبار، ويتميز بطعمه اللذيذ لما فيه من مكونات تعدّ من اساسيات المؤونة الشتائية التي تحضّرها النسوة البقاعيات نهاية صيف كل عام، كما توضح حمية. فمن القاورما وأنواع الحبوب السبعة، الحمص والبرغل والفاصولياء بنوعيها والعدس والبازيلاء واللوبياء المقدّدة، إلى البندورة والتوابل الضرورية لها، يمتد الطعم اللذيذ الغني بالنكهات.
لا تنتهي لائحة الطبخات الشتوية البقاعية التي يرتبط اسمها بالثلج والبرد وتدني درجات الحرارة عند «المخلوطة»، ثمة وجبات أخرى ومنها «الرشتة» (عجين وقاورما وعدس وتوابل)، «والبرغل ع حمص»، و«أقراص بو آمنة» (أقراص مشوية من الكبة بالقاورما) والفاصوليا وغيرها.

المياه البديلة

في خضم الحديث عن الوجبات الشتائية يعلو صراخ الأولاد في المنزل بعدما اقتربوا من نافذة منزلهم. «رجعت تشتي ثلج شوفو الرقعة قدي حجمها» يصرخ محمد أصغرهم. يبدأ حديث الهمس الممزوج بالسعادة والضحك بين الاخوة، «يعني مدرسة ما في والعطلة راحت شي 20 يوم».
صوبيا «الستوف» الضخمة والمتربعة وسط الغرفة الكبيرة، تنشر الدفء من دون هوادة. فوقها طنجرة ضخمة وضع فيها الثلج (تسعى العائلات البقاعية خلال فترة تجمد قساطل المياه المنزلية، لتذويب الثلج النظيف بهدف الحصول على مياه منها). إلى جانبها «مصبّ» القهوة العربية المرّة، وإبريق الزهورات، بما يحتويه من زهر البابونج و«شوشة العرنوس» والتين واللوز المجفف وإكليل الجبل والزعتر البري.
تكاد الزهورات تكون المشروب الأفضل لسهرات السمر الشتائية الباردة، كما يؤكد محمد شمص ابن بلدة بوداي. اجتمع في منزله عدد من أصحابه وجيرانه في سهرة لإبعاد شبح الملل في ظل انقطاع التيار الكهربائي وغياب وسائل التسلية الحديثة. عاد الجميع إلى تلك السهرات القديمة. «جمعات الليخة والـ14 والكنستر وحتى الباصرة» يقول شمص وهو يؤدي واجب الضيافة. انقطاع التيار الكهربائي وبطء البلديات في فتح الطرقات الفرعية للقرى والبلدات، كانا الموضوعين الأساسيين اللذين استحوذا على الأحاديث والمناقشات. «كيف لدولة تحترم نفسها أن لا تتجهّز لعاصفة عرف بقدومها قبل أسبوع، يقول حسن وهو يوزّع أوراق لعب الليخة على أصدقائه الثلاثة».
تبدأ اللعبة ويستمر النقاش حول روايات «التقصير والإهمال» وعن «الاستنسابية في فتح الطرقات وترك أحياء بكاملها محاصرة بالثلوج»، في الوقت الذي استمرت فيه «زينة» بنثر رقاع الثلج على قرى البقاع بكامله وزيادة عزلتها.
ما يخفّف من حدة النقاش بين المتسامرين، بعض الروايات والحوادث المضحكة التي واجهت بعضهم، فيما فاطمة ربة المنزل تجود على ضيوفها بما لذ وطاب من «مؤنة الضيافة» التي آثرت التفنن في جمعها بأنواعها المتعددة واللذيذة، من الفواكه المجففة التي تبدأ بالمشمش والتين، ولا تنتهي عند الزبيب بأنواعه والقضامة المالحة واللوز والجوز، وطبعاً الضيافة المحلاة التي ارتبط اسمها بالثلج أيضاً مثل «السمسميّة» و«الفستقيّة».