مرتدياً سترةً واقيةً من الرصاص، وبحمايةٍ أمنيةٍ مُشدّدة، دخل روي بينتو، بمرافقةٍ من عناصر أمنيين، قاعة المحكمة في لشبونة - البرتغال، الجمعة الماضي. جلس أمام ثلاثة قضاة، مواجهاً 90 تُهمة. سيجلس على المقعد عينه ثلاث مراتٍ أسبوعياً حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر. خلفه يقف فريقٌ قانوني و45 شاهداً، وعشرات الآلاف من مشجعي كرة القدم. في صفّه، أحد كوابيس أميركا، إدوارد سنودن، المبرمج الذي سرّب وثائق سريّة من وكالة الاستخبارات المركزية (CIA). وبمواجهته يقف جيشٌ من الأندية والإداريين واللاعبين والمدربين ووكلائهم، وصولاً إلى الاتحاد الدولي للعبة. لن يدّعي عليه الجميع في المحكمة، لكنّهم يُمنّون النفس برؤية الشاب الذي كشف فسادهم، أو حاول فعل ذلك، خلف القضبان. «ويكيليكس» البداية في عام 2010. ما نشره جوليان أسانج، عن انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان، وعمليات اغتيال أجرتها الحكومات، وفساد مسؤولين، وكشف تحكّم المنظومات الكبرى بأحداث العالم، كان الشرارة الأولى. وما استكمله إدوارد سنودن، كاشف فضيحة المؤسسة الاستخبارية الأكثر شهرةً في العالم، المتعلّقة ببرنامج التجسس «بريزم»، هو التسريب الأكبر في التاريخ، الذي منح الناس حقّ معرفة تجسس الحكومات على كل فردٍ منهم. أما روي بينتو، فقد يكون «الفارس» الثالث، وهو برأي محاميه، «سنودن الفساد الدولي، ويجب الاعتراف به كأحد أعظم المبلّغين في بداية القرن الحالي»، وغالباً، سيواجه مصير سلفَيه.
«الوصول غير المشروع إلى المعلومات، وسرقة البيانات، ومحاولة الابتزاز»، هي من بين التهم التي يواجهها بينتو. الشاب يُحاكم على كشفه فساداً عالمياً، وسيدفع ثمن ما فعله طوال حياته، إن لم يكن في السجن، ففي المنفى الذي سيتّخذه ملاذاً للهروب ممّن يريد إيذاءه. قصّته بدأت عام 2016، بعد ثلاث سنواتٍ على ظهور سنودن، وستٍّ على انطلاقة «ويكيليكس». أسَّس بدوره موقعاً إلكترونياً باسم «فوتبول ليكس»، ووجهته الأولى كانت هولندا. كشف تورّط نادي «تفينتي» بعقد اتفاقٍ غير قانوني مع شركة استثمار ووكلاء لاعبين، أدى إلى إيقاف النادي عن المشاركة في البطولات الأوروبية لثلاث سنوات. بعدها، أدخل صحيفة «شبيغل» الألمانية إلى الخط، وتعاون مع عشرات الصحافيين، مقدِّماً 70 مليون وثيقة، ونحو «3.4 تيرا بايت» من المعلومات. تسريبه الأكبر تعلّق بمخالفة «مانشستر سيتي» الإنكليزي قواعد اللعب المالي النظيف، ما أدّى إلى منع النادي من المشاركة في البطولات الأوروبية لسنتين وفرض غرامةٍ ماليةٍ عليه، قبل أن يُلغى القرار بعد استئنافه. قبلها كشف عن نظام التهرّب الضريبي المتّبع في كرة القدم، وطاول أسماء كبيرة، أبرزها البرتغالي كريستيانو رونالدو ومواطنه المدرب جوزيه مورينيو والأرجنتيني ليونيل ميسي. لكن تسريب وثائق طاولت نادي بنفيكا البرتغالي، متّهمةً إياه بمحاولة السيطرة على حكّام الدوري، هو الذي هدّد حياته فعلياً، بسبب مخاوف من تصفيته من قِبل مشجعي النادي المتعصّبين. لم يكتفِ بينتو بالهجوم على الأندية واللاعبين والمدربين ووكلائهم، بل وصل إلى الاتحاد الدولي لكرة القدم، بشخص رئيسه السويسري جياني إنفانتينو، إذ حيث حامت الشكوك حول وجود «صداقة مريبة» تجمع بينه وبين المدعي العام في «هو فاليه» رينالدو أرنولد، واتهام الأخير بـ«إساءة استخدام السلطة». أمرٌ بدا أنّه مهّد لفتح القضاء السويسري تحقيقاً جنائياً بحق رئيس الـ«فيفا» - لا يزال جارياً - يتعلّق بقضية الفساد المعروفة باسم «فيفا غيت».
تسريب بينتو الأكبر تعلّق بمخالفة «مانشستر سيتي» الإنكليزي قواعد اللعب المالي النظيف


في الجلسة الأولى من المحاكمة، دافع بينتو عن نفسه معتبراً أنّه «مُبلِّغ» وليس «مخترقاً» أو «هاكر». بالنسبة إليه، ما فعله كان «إضاءة النور في الجانب المظلم من الأعمال التجارية في كرة القدم». كشْف المعلومات للعامة كان هدفه الأوّل، لكنّه متّهم بابتزاز «دوايان سبورت»، وهو صندوق استثمار له علاقة بانتقالات اللاعبين، لحصوله على مبلغٍ مالي منه مقابل عدم كشف وثائق تخصّه، إلا أن بينتو الذي يقرّ باتصاله بالصندوق، يدافع عن نفسه بهذه القضيّة، بأن هدفه كان «اختبار» الصندوق، دون «نيّةٍ سيئة»، ويؤكّد أنه لم يحصل على «سنت واحد».
فريق الدفاع عنه شرح أن بينتو تعاون مع السلطات الفرنسية والبلجيكية والسويسرية والمالطية، وأن السلطات في فرنسا أرادت وضعه في برنامج حماية الشهود، لكن السلطات البرتغالية هي التي أرادت اعتقاله، بسبب اتهامه بتسريب معلوماتٍ من حواسيب مكتب النائب العام، والاتحاد البرتغالي لكرة القدم، وإحدى أكبر شركات المحاماة المحليّة، ونادي لشبونة البرتغالي، إلى جانب صندوق «دوايان سبورت» للاستثمار.
محاكمة بينتو التي تستمر لنحو أربعة أشهر، يُنتظر أن يشارك فيها إدوارد سنودن عبر الفيديو، كأحد أهم الشاهدين. أُدخل أخيراً في برنامج حماية الشهود في البرتغال، بعدما وُضع سابقاً في الإقامة الجبرية، ممنوعاً من الوصول إلى الإنترنت، عقب خروجه من الاحتجاز، ولو أن البقاء في المنزل احتجازٌ بحد ذاته. عموماً، لم يكتفِ بينتو وفريق الصحافيين الذي يعمل معه بكشف الفساد في كرة القدم، بل ساروا على طريق أسانج، إذ يُتّهمون بتسريب 700 ألف وثيقة تحتوي على الوثائق السرية لما أصبح يعرف بـ«لواندا ليكس»، التي كشفت عن الإمبراطورية المالية لإيزابيل دوس سانتوس، ابنة الرئيس الأنغولي السابق، التي تخضع للتحقيق بالاستيلاء على خزائن البلاد المالية.
قضيته تطرح سؤالاً متكرراً: ما الذي سيتغيّر؟ سنودن كان له التسريب الأكبر، والعالم علِم حقاً بوجود منظومة مراقبة شاملة للتجسس، لكن هل منع ذلك الحكومات من الاستمرار بانتهاك الخصوصية، بل استثمارها وبيع المعلومات واستغلالها؟ هل فعلاً نال المجرمون الذين كشفهم أسانج وفريق عمله العقاب المستحق؟ هل حقاً ستمتنع الأندية عن التحايل على الأنظمة، وسيلتزم اللاعبون والمدربون والوكلاء بدفع الضرائب؟ وهل يدفع بينتو ثمن بطولته؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا