سلسلةٌ من الإخفاقات مُنيت بها الفرق الألمانيّة في البطولات الأوروبيّة، تمثّلت بالفشل في بلوغ نهائي دوري الأبطال منذ عام 2013. خروجٌ مفاجئ من دور مجموعات مونديال روسيا للمنتخب الأوّل، جاء تتمةً للتراجع الكبير الذي عصف بالكرة الألمانية أخيراً. رغم ذلك، حقق البوندسليغا رقماً قياسياً جديداً في عائداته بفعل السياسات التي اعتمدتها الأندية الألمانية، محوّلةً الدوري إلى مؤسسة إعلامية ضخمة. من الناحية الاقتصادية، لا أحد يقوى على الألمان.تتبنى الأندية الألمانيّة منهجاً أكثر ذكاءً واستقراراً عما تتبعه باقي الدوريات، إذ ساهمت وسائل الإعلام والدعاية بحوالى ثلثي الدخل الإجمالي للأندية. في ظلّ التضخم الذي تشهده باقي الدوريات الأوروبية، ساهمت السياسة المتبعة من الأندية الألمانية في خلق دوري منعزل اقتصادياً، بحيث تشهد حركة الانتقالات داخل الدوري الألماني مساراً مغايراً عن الخارج.
مع الزيادة المطردة لحقوق البث التلفزيوني، حققت الأندية الألمانية لكرة القدم في درجتيها الأولى والثانية رقماً قياسياً في الإيرادات وصل إلى 4.42 مليار يورو (5 مليارات دولار) بزيادة قدرها 13 في المئة عن الموسم السابق، ليأتي في المرتبة الثانية بعد الدوري الإنكليزي الممتاز، متقدّماً عن الدوري الإسباني الذي حلّ ثالثاً. وأوضحت رابطة الدوري الألماني لكرة القدم في تقريرها الاقتصادي لعام 2019، أن 17 من الأندية الـ18 المنافسة في الدوري الألماني سجلت عائدات إضافية تبلغ 100 مليون يورو عن الموسم الماضي، إضافةً إلى تسجيلها رقماً قياسياً في مدفوعات الضرائب التي بلغت 28.1 مليار يورو، كما بلغ إجمالي العاملين بالأندية والشركات التابعة لها أكثر من 55 ألف شخص. رغم هذا النشاط الكبير، تراجعت الأرباح في الدوري مقارنةً بالسنوات الماضية، إذ انخفض صافي العوائد الإجمالية إلى 2.7%، بعد أن كان 4.4% عام 2015 و6.3 % عام 2016. يعود السبب وراء تقليص الأرباح إلى زيادة الرواتب «الفلكية» المدفوعة في النجوم البارزين، إضافةً إلى زيادة مدفوعات أندية البوندسليغا على قطاع الأكاديميات الشبابية، حيث استثمرت من عام 2002 إلى عام 2017 ما يقارب 1.6 مليار يورو لتطوير قطاع الشباب.
بعيداً عن حقوق البث، نجح الدوري الألماني في تحقيق مكاسب أخرى عن طريق الجماهير، الإعلانات، بيع المواهب الصاعدة، إضافةً إلى العائدات المحصّلة من محطات التلفزيون العامة في ألمانيا التي احتفظت ببعض حقوق البث الإعلامي. وحاولت الأندية الألمانية تقليل اعتمادها على عائدات البث بشكلٍ رئيسي، فقامت ببيع إعلانات على أكمام القمصان تصل قيمتها إلى 40 مليون يورو.
في ظلّ انكماش الأرباح، شكّل استثمار الأندية الألمانية المواهب الصاعدة باباً واسعاً لدرّ العائدات على خزائنها، فقامت بشرائها بسعرٍ ضئيل ثم بيعها بأضعاف السعر المدفوع، كما الحال في استراتيجية سوق انتقالات نادي بروسيا دورتموند، التي يلجأ النادي خلالها إلى استخدام المواهب للمنافسة على اللقب، ثم الاستفادة جرّاء بيعها بعد ذلك.
حققت الأندية الألمانية لكرة القدم في درجتيها الأولى والثانية رقماً قياسياً في الإيرادات تمثل بـ4.42 مليار يورو


يمتاز البوندسليغا عن غيره من الدوريات الأوروبية بالاستقرار المادي والاقتصادي، بحيث تحول قاعدة «50 + 1» دون تحقيق عجز في ميزان الإيرادات. قاعدةٌ ذهبيةٌ أدت إلى زيادة مؤشر الإيرادات للدوري الألماني في السنوات الـ 14 الماضية.
يحرص القائمون على الدوري الألماني على عدم تحكّم أي مستثمر في سياسة فريق من فرق الدوري، سواء من داخل ألمانيا أو من خارجها، بحيث تنصّ قاعدة «50 + 1» على أن تكون أغلبية أسهم النادي، ملك للنادي نفسه، بالتالي لن يتمكّن أي مستثمر من شراء النادي بأكمله، والتحكم بالأسعار.
لطالما عولت الفرق الألمانية في عائداتها على القاعدة الجماهيرية الكبيرة. الجماهير الألمانية هي الأكثر حضوراً للمباريات المحليّة بين الدوريات الخمسة الكبرى كافة، بمتوسّط حضور يبلغ 40693 مع معدل تعبئة استثنائي للملعب بنسبة 91٪. في موسم 2016/2017 مثلاً، جاء أكثر من 19 مليون معجب - حوالى ربع سكان ألمانيا - لمشاهدة مباريات البوندسليغا وبوندسليغا 2. لذلك، تحمي قاعدة «50 + 1» الجماهير بالدرجة الأولى، بحيث يضمن استقرار أسعار بطاقات الحضور وجود الجماهير بكثرة، ما يؤدي إلى الحصول على معدّل عائدات ثابت من الجماهير مع توالي السنوات.
بفوزه في النسخ الست الأخيرة من الدوري الألماني، إضافةً إلى تتويجه بـ13 لقب بوندسليغا منذ بداية الألفيّة الجديدة، جعل بايرن ميونخ من الدوري المحلي «سباقاً للخيل الواحد»، ما انعكس سلباً على حقوق البث في ألمانيا مقارنةً بباقي الدوريات. للحصول على عائدات بث عالية، يجب توفر العديد من العوامل لجذب المستثمرين، كعدد المشاهدين وقيمة الدوري، إلّا أن العامل الأهم من ذلك، هو مدى التنافس بين الفرق. بفعل العامل الأخير، تحصل إنكلترا على أعلى نسب عوائد بث تلفزيوني، نظراً لشراسة المنافسة بين الستة الأوائل، إضافةً إلى سرعة «الريتم» وارتفاع معدلات الأهداف في مختلف مباريات جدول الترتيب. مع صحوة دورتموند، وتحسّن بعض الأندية الأخرى، تغيرت المعادلة أخيراً في ظلّ إحياء عنصر المنافسة الذي ترافق مع التراجع الملحوظ للعملاق البافاري، بحيث ساهمت عودة المنافسة في تقليص الفجوة بين فرق البوندسليغا، ما أدى إلى زيادة نسب المشاهدة في العالم بعد أن كانت محصورةً نسبياً بالمشاهدين المحليين. وبفعل عامل المضاربة بين المستثمرين في المجال التلفزيوني، وصل عرض «سكاي» الأخير إلى مليار يورو مقابل صفقة البث لموسم 2021/2022، على أن يتم الاتفاق الأخير مطلع العام المقبل. العائدات لن تتوقف على هذا الحد، سترتفع أكثر.
طرقٌ أخرى ساهمت في زيادة العائدات المالية للأندية الألمانية، جاءت انعكاساً لتسويق حقوق البث التلفزيوني في جميع أنحاء العالم، بحيث حصل العديد من الأندية الألمانية على عائداتٍ من شركات رياضية على الإنترنت. عام 2016، فازت متاجر «أمازون» الأميركية لأول مرة بحقوق البث الإذاعي عبر الويب لموسم 2017/2018 من الدوري الألماني، كما أصبحت قناة «يورو سبورت»، وهي قناة رياضية أوروبية عالمية مملوكة لشركة «ديسكفري كوميونيكيشنز»، أحد الوافدين الجدد إلى السوق الألمانية لتغطية الأحداث البارزة في البوندسليغا. الألمان ليسوا بحاجةٍ لضخ الأموال من أجل تسليط الأضواء عليهم، جودة الكرة الألمانية وحدها كفيلة بجلب الأموال إلى خزائنهم. من يقوى على الاقتصاد الألماني؟ ببساطة لا أحد.