لطالما كانت كرة القدم ضحيةً للظروف التي يعيشها لبنان، فتكون أحياناً متّهمة بتوتير الشارع، وفي أحيانٍ أخرى بأنها تهدّد السلم الأهلي أو تغذي النزعات المختلفة. لكن الواقع أن هذه اللعبة هي من تعاني من كل المشكلات المذكورة سلفاً، والتي عرفتها البلاد لسنواتٍ طويلة. هذه البلاد التي تعيش أسوأ فترةٍ في تاريخها الحديث من الناحيتين الماليّة والمعيشيّة، ما يترك آثاراً سلبية على كل القطاعات ويهدّد وجودها، وهو أمر ينسحب بطبيعة الحال على ميادين كرة القدم التي لا يمكن أن تعيش حياةً طبيعية من دون وجود المحرّك الأساسي لها، أي المال، الذي يُعدّ الوقود الضروري لاستمرار سيرها.
لا تبدو غالبية الأندية قادرة أو مستعدّة لرفع رواتب لاعبيها أو تغيير قيمة العقود التي أبرمتها معهم سلفاً (طلال سلمان)

وعند عنصر المال يمكن التوقف لاستطلاع العقبات التي تواجهها اللعبة الشعبية الأولى في لبنان حالياً، ولو أن المسائل الشائكة لا تظهر إلى العلن حالياً لأسبابٍ مختلفة، منها أن غالبية الأندية نفسها ترى أن من المعيب الخروج للحديث عن كرة القدم في ظلّ الأجواء الصعبة التي تعيشها البلاد السائرة من سيئٍ إلى أسوأ، ومنها ما يرتبط بعملها بهدوءٍ وحذر لمعرفتها بأنه لا يزال لديها بعض الوقت قبل أن تنهي ترتيباتها الأخيرة، ومنها بحكم وجود قلقٍ عند بعضها بأن البطولة متوقفة على وضع البلاد، فهي ستمضي قدماً وتنطلق في حال كانت الأوضاع مستقرة أو ستتعرقل في حال استمرت العرقلات لإيجاد الحلول للقضايا الشائكة التي ترتبط بشكلٍ مباشر بالحياة اليومية للاعبين.
بطبيعة الحال، بعدما أصبحت كل العقود والرواتب في الرياضة اللبنانية بالليرة حصراً، كان الوضع مقبولاً بالنسبة إلى اللاعبين والمدربين الذين ضحوا بهدف إعادة إطلاق عجلة البطولات. وهذا التحوّل بدأ من كرة القدم أوّلاً عند الاستغناء عن اللاعب الأجنبي وتوفير الاتحاد اللبناني للعبة العملة المساعدة للأندية لإطلاق نشاطها والمشاركة في البطولات، فكان أن شاركت بسرور وخصوصاً تلك الأندية التي طالبت سابقاً بإلغاء الدوري أو لوّحت بالانسحاب لعدم توفّر المال معها.
وبعد انتهاء الموسم الماضي شرعت كل الأندية في عملية التفاوض مع لاعبين جدد أو لتجديد عقود لاعبيها، فبدت الأمور أكثر تعقيداً من قبل، إذ بين الصيف الماضي ونظيره الحالي تغيّر الكثير مع تدهور وضع العملة المحلية والارتفاع شبه اليومي للدولار بطريقة جنونية. كلّ هذا خلق إشكالية يومية مع انقسام الرأي العام الكروي بين فريقين: الأول مناصر للأندية ويعتبر أنها تضحّي كثيراً للبقاء على قيد الحياة في بلدٍ مفلس. أما الثاني فيطالب بإنصاف اللاعبين الذين خسروا كمعدل عام حوالى 50 في المئة من قيمة رواتبهم التي أصبحت غير كافية لتأمين حاجاتهم الرياضية اليومية على غرار تنقلاتهم للذهاب إلى التمارين والمباريات، وتأمين النظام الغذائي الصحي الضروري، أو حتى بالنسبة إلى البعض ممن يتقاضون رواتب بسيطة، فقد أصبح من الصعب عليهم تأمين ثمن مواد غسيل الملابس!

سلة مسائل شائكة
هنا لا يمكن لوم الأندية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من المؤسسات التي تعاني في هذه البلاد. كما لا يمكن إلقاء اللوم على اللاعبين الذين عانوا ما عانوه ولا يزالون، إذ منهم من يضطر للقدوم يومياً من مناطق بعيدة إلى بيروت للانخراط في التمارين، وهي مسألة إن كانت شاقة سابقاً لناحية عامل الوقت والزحمة على الطرقات، فإنها أصبحت مكلفة مادياً ومرهقة نفسياً في ظل الأزمات المتراكمة الحالية.
أحد النافذين في نادٍ طليعي يصف الوضع بالوصول إلى حائط مسدود قبل انطلاق البطولة، فهناك فرق خارج العاصمة أصبحت مضطرة لتأمين الوقود والطعام والإقامة للاعبيها من أجل إيجاد التوازن في ما خصّ الاتفاقات التي وقّعتها معهم. وهذه المسألة تنطلق من جانبٍ إنساني بالدرجة الأولى، اذ لا يمكن الطلب من أي لاعبٍ تأمين كل حاجياته وهو يخوض رحلة طويلة يومياً للانضمام إلى تمارين الفريق في وقتٍ لا يتخطى فيه راتبه الـ3 ملايين ليرة. لذا عمد أحد الأندية أخيراً إلى تأمين شققٍ سكنية قريبة من الملعب للاعبيه لتأمين أفضل استعدادٍ لهم قبل انطلاق الموسم ولعدم خسارتهم بتغيّبهم عن التحضيرات لسببٍ أو لآخر.
انطلاق الدوري اللبناني يتوقف على التحوّلات في الأوضاع المالية والأمنية والصحية


هي مسألة شائكة وستصعب أيضاً عند رفع الدعم وتضاعف سعر صفيحة البنزين التي يعاني اللاعبون والمدربون لتأمينها في الوقت الحالي، ومنهم من يتأخر أو يتخلّف عن التمارين بسبب وقوفه في الطوابير على المحطات.
كل هذا يضع علامة استفهام حول مستقبل الدوري بنظر العديد من المسؤولين، وخصوصاً أولئك الذين يتوقفون عند الناحية الأمنية، حيث عجز قبل أيامٍ قليلة بعض اللاعبين عن الوصول إلى ملعب التمارين الخاص بفريقين بسبب توتر الأجواء الأمنية في المنطقة حيث يوجد الملعب. أضف أن الناحية الأمنية تبدو أساسية لضمان إخراج المباريات بطريقةٍ طبيعية، وهي مسألة شائكة أخرى في ظل غياب الدولة والأمن عن بعض المناطق حيث توجد ملاعب تستضيف المباريات. ففي إحدى هذه المناطق البعيدة عن بيروت وصلت شكوى إلى مخفر المنطقة بحصول إشكالٍ في إحدى السهرات، لكن لم يتحرّك أحد بفعل عدم وجود بنزين في سيارات الدرك!
ببساطة المشاكل تضاعفت مع الاضطرابات على الطرقات التي قد تقطع الأوصال للوصول إلى الملاعب، ومع الجوانب الاقتصادية وأيضاً الصحية رغم أن الحديث عن «كورونا» تقلّص بشكلٍ غريب

لا رفع للرواتب
وبانتظار الحلّ الحكومي وانخفاض سعر صرف الدولار وتحرّك العجلة الاقتصادية والمالية بشكلٍ أفضل في البلاد، لا تبدو غالبية الأندية قادرة أو مستعدة لرفع رواتب لاعبيها أو تغيير قيمة العقود التي أبرمتها معهم سلفاً. ولهذا السبب ربما قرأ قسمٌ من المميزين منهم سلفاً المرحلة التي وصلنا إليها، فطالبوا بالحصول على ربع قيمة العقد بالعملة الصعبة، وذلك لتعويض أي تغييرٍ في سعر الصرف الذي إذا ما ارتفع سيقلّص من قيمة عقودهم. كما أن لاعبين آخرين يرفضون التوقيع على عقدٍ لأكثر من موسمٍ واحد بسبب تخوّفهم من تبدّل وضع العملة إلى الأسوأ بعد سنةٍ من الآن حيث يدركون بأنه لن يكون بمقدورهم فعل أي شيء حيال هذا الأمر كون غالبية الأندية تعمل بشكلٍ حثيث على تقليص نفقاتها قدر الإمكان لتأمين ديمومتها، وهو حقٌ مشروعٌ لها. أما قسمٌ آخر من اللاعبين فطالب بدفعة كبيرة من قيمة العقد الإجمالية لتأمين نفسه بعض الشيء خوفاً من تغيّر وضع العملة أيضاً أو عدم استكمال الدوري، وهو أمرٌ عقّد مفاوضاتٍ كثيرة منها مع لاعبٍ تقدّم بهذا المطلب، لكنه رفض توقيع مستندٍ يتعهّد فيه بإعادة المبلغ إلى النادي في حال عدم انطلاق البطولة أو توقفها.
لكن بطبيعة الحال تبدو النيّة موجودة عند الأندية المتحمّسة لعودة عجلة الدوري إلى الدوران، وكذا بالنسبة إلى اللاعبين الذين يبحثون عن فرصٍ لتأمين عيشٍ كريم والحصول على بعض المال فيتشبّثون بأمل اللعب، بينما وفي وقتٍ لا أحد يمكنه أن يضمن فيه أي شيء في بلدٍ يكشف كل يوم عن مفاجأة غير سارّة، فإنّ خيط الأمل الأكثر متانةً هو في إصرار الاتحاد على مساعدة الأندية على تخطي كلّ هذه العوائق وتأمين انطلاقة البطولة بطريقة طبيعية إذا سمحت الظروف الأمنية والصحية بالدرجة الأولى، حيث يُنتظر أن يساعد كل نادٍ في الدرجة الأولى بمبلغٍ يقارب الـ45 ألف دولار مقسّمة على دفعتين، الأولى قبل انطلاق البطولة، والثانية تسبق انطلاق مرحلة الإياب.



أوّل ضحايا أزمة «البنزين»


سيُسجّل اسم المدافع محمد صادق كأوّل لاعب يفسخ عقده مع ناديه بسبب أزمة المحروقات التي تعيشها البلاد، إذ بعد حوالى الشهر فقط على انضمامه إلى التضامن صور فكّ مدافع شباب الساحل والراسينغ السابق ارتباطه معه، معيداً السبب إلى صعوبة تأمين مادة البنزين لسيارته بهدف الانتقال يومياً إلى الجنوب للانخراط في التمارين.
وكان صادق قد رافق التضامن إلى المعسكر الذي أقامه في تركيا، وبدا أنه سيلعب دوراً أساسياً معه في الموسم المقبل، وخصوصاً أنه يتمتّع بالخبرة المطلوبة لقيادة خط الظهر، وهو يأمل إيجاد فريقٍ جديد في الدرجة الأولى قبل إقفال باب الانتقالات في 8 أيلول المقبل أي قبل 3 أيام على انطلاق الدوري، حيث سيلعب «سفير الجنوب» افتتاحاً خارج أرضه أمام شباب البرج على ملعب نادي العهد.