«اللبناني عيّيش». عبارة لطالما سمعناها خلال سنين الحرب وفي الأزمات. رغم كلّ الظروف التي مرّت على لبنان كان اللبناني متمسّكاً بالحياة. أمرٌ قد يكون منطقياً حين تتعلّق الأمور بأزمات سياسيّة أو أمنيّة، لكن حين يتعلّق الأمر بأزمة اقتصادية فمن الصعب تقبّل هذه الفكرة. قسم كبير من اللبنانيين في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها، انتقل من مرحلة الحياة إلى مرحلة البقاء على قيد الحياة. ولكن ما يحصل في الشارع يبدو غير منطقي. هناك حالة نكران، ولا مبالغة بالقول إن هناك حالة جنون.حالياً يعيش اللبنانيون أجواء حدثين كرويين كبيرين: اليورو وكوبا أميركا. منذ ما يقرب من ثلاثة أسابيع من الصعب أن تمرّ ليلة لا يكون فيها مباراة من النوع الجماهيري. أمرٌ يبدو واضحاً من خلال الاكتظاظ المخيف الذي تشهده المقاهي في بيروت وضواحيها بمختلف مستوياتها، من الشعبية إلى تلك التي تقدّم جميع أنواع الطعام. جولة في بيروت ليلاً، وليس في نهاية الأسبوع، تعطي انطباعاً بأن لا أزمة في البلاد، وكأن سعر صرف الدولار لم يصل إلى مستويات قياسية.
مشهد لا يبدو غريباً مع كل مسابقة عالميّة. لكن في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة والارتفاع الجنوني للأسعار حيث مشهد المقاهي «المفوّلة» غير مألوف على الإطلاق. فقبل التفكير في كيفية تأمين كل هؤلاء اللبنانيين لكلفة متابعة مباراة كرة قدم في مقهى أو مطعم، يمكن التفكير في سؤال أول: كيف يستطيع هؤلاء تأمين البنزين للوصول إلى المقاهي والمطاعم؟ فاللبناني وصل إلى مرحلة أصبح يفكّر في كلّ خطوة يقوم بها حرصاً على عدم استهلاك الوقود.
السؤال الثاني في ظل الأزمات عينها: كيف يؤمّن اللبناني الأموال للجلوس في مقهى لمتابعة المباريات؟
كلفة متابعة مباراة واحدة في مقهى متوسط المستوى، لا تقل عن 100 ألف ليرة للشخص الواحد. مبلغ يتم توزيعه بين ساندويش يكون عبارة عن وجبة عشاء خفيفة ومشروب غازي ونرجيلة. المعدل العام لساندويش دجاج في بيروت بات لا يقل عن 25 ألف ليرة لبنانية، وفي المقاهي تصل قيمته إلى 40 ألف ليرة، يُضاف إليها 20 إلى 25 ألف ليرة ثمن النرجيلة و10 آلاف ليرة لبنانية للمشروب الغازي. وخلال المباراة هناك مياه معدنية، وبعض البزورات وغيرها، و«الحسابة بتحسب».
في السابق كانت بعض المقاهي تتقاضى كلفة إضافية مقابل عرض المباريات. يجب أن تحجز مكاناً قبل يوم أو يومين، أمّا اليوم فمعظم هذه المقاهي تكتفي بأن يطلب الزبون نرجيلة، ومعها بعض المشروبات. كلفة الفاتورة بحدّ ذاتها أصبحت «لمن استطاع إليها سبيلاً».
لا شك أنها مفارقة يمكن التوقف عندها. أزمة اقتصادية خانقة ومقاهٍ مكتظّة.
قد يكون لذلك أسباب عديدة أولها أن عدداً لا يُستهان به من اللبنانيين يتقاضون رواتب بالدولار، وبالتالي تصبح كلفة متابعة مباراة في مقهى أو مطعم زهيدة مقارنة بالسابق. من كان يدفع 50$ سابقاً على سعر صرف 1500 ليرة للدولار، بات اليوم يدفع 10$ على سهرة كرة قدم.
كما أن في لبنان هناك عدد كبير من اللبنانيين الذين يعملون في الخارج وقد جاؤوا أخيراً إلى لبنان لتمضية الإجازة الصيفية، وبالتالي تنطبق عليهم معادلة اللبنانيين المقيمين في لبنان ويتقاضون رواتبهم بالدولار.
أضف إلى ذلك ارتفاع كلفة الاشتراك بالقناة الناقلة للمباريات. ليس فقط كلفة الاشتراك بالباقة التي تنقل مباريات اليورو وكوبا أميركا التي تبلغ 450 ألف ليرة، بل الاشتراك بالقناة بشكل عام قبل إضافة باقة اليورو وكوبا.
كما أن اللبنانيين يعيشون تقنيناً قاسياً على صعيد الكهرباء سواء التي تؤمّنها الدولة أو مولدات الاشتراك في الأحياء، ما يعني أن المقاهي هي الملاذ الأخير لعدد كبير من الأشخاص الذين يريدون متابعة المباريات.
نقطة أخرى قد تكون سبباً في ارتياد اللبنانيين للمقاهي، هي الحاجة للهروب من الواقع الصعب وتعبئة الفراغ الكبير والقلق الذي يعاني منه اللبنانيون. فتكون مباراة كرة قدم متنفّساً لشريحة معينة من اللبنانيين تبحث عن مكان تعتقد فيه أن الزمن قد عاد إلى الوراء، في وقت يتمنى كثيرون أن يبقى على ما هو عليه، ليس بسبب استقراره بل خوفاً من ما هو أسوأ.