منذ أن أوقف وباء «كوفيد-19» الحياة الطبيعية حول العالم، شرعت أكثر الدول تأثراً بتفشي الفيروس إلى وضع الرياضة ضمن خططها الأساسية في مساعيها لإعادة الأمور إلى نصابها، وذلك بعدما اعتُبرت الرياضة عاملاً مساهماً بشكلٍ أساسي في خلق مساحة ترفيهية افتقد لها الناس وسط بقائهم في الحجر لفتراتٍ طويلة.ومع إقرار الحكومات المختلفة في أوروبا وأميركا عودة البطولات والأحداث الرياضية ولو بشكلٍ جزئي أو بعيد عن المشهد الكلاسيكي، بدا أن الرياضة قادرة على تغيير مزاج الشعوب وإخراجها من الحالة النفسية الصعبة التي أصيبت بها جراء الأخبار اليومية السيئة وغالبيتها ارتبطت بعدّاد الإصابات وأرقام الوفيات.
لكن لبنان وكعادته بقي بعيداً كل البعد عن هذه المعادلة التي كانت محور دراسات علمية عالمية خلال الأشهر الماضية، حيث خلُصت دراسات الباحثين إلى أن معنويات سكان عدد من البلدان التي تفشى فيها الوباء بشكل مرعب، تُعتبر عالية بعدما لمس الناس أملاً باستعادة حياتهم الطبيعية من خلال عودة الروح إلى الملاعب ولو جزئياً أي في غياب الجمهور على وجه التحديد.
إذاً بقي الجمود مسيطراً في لبنان على واحدٍ من القطاعات الحيوية على صعيد المجتمع وعلى صعيد الفئة الشابة التي ارتبطت به، فارتفعت نسبة البطالة المرتبطة بالرياضيين الذين يعتاشون من الرياضة على غرار كرة القدم أو كرة السلة التي أصابها الشلل بعدما غابت عن المشهد منذ انطلاق التحركات الشعبية في الشارع العام الماضي، وعجزت مراراً عن إطلاق بطولتها بسبب إجراءات الإقفال العام.
إجراءات تجاهلت مراراً إيجاد حلٍّ للرياضيين، فعجزت المنتخبات الوطنية حتى عن التدرب إلا في بعض الحالات الاستثنائية أخيراً، وتشرّد أبطال الرياضات الفردية بين مواقف السيارات وأسطح الأبنية في محاولةٍ منهم للحفاظ على لياقتهم البدنية أملاً بتمثيل لبنان بشكلٍ مشرّف.
لكن لبنان نفسه تجاهل كل هؤلاء من خلال المسؤولين عنه، الذين بدوا وكأنهم يغرّدون خارج سرب العالم، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى عدم إدراكهم لأهمية الرياضة في المجتمع أو دورها العام، لتتلقى محاولات وزيرة الشباب والرياضة فارتينيه أوهانيان ضربةً بعدم إقرار الدراسة التي أعدّتها لإعادة النشاط إلى الحياة الرياضية، فبعد مصارحة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب في أحد المجالس بأن الرياضة ليست من الأولويات، تجاهلت اللجنة الوزارية الخاصة بمكافحة «كورونا» مناقشة مشكلة الإقفال التي يعاني منها هذا القطاع، فكان رفضها في مكانٍ ما لإيجاد حلٍّ لقضية رياضية ظاهراً واجتماعية ومعيشية مضموناً، مؤذياً لآلاف العائلات وآلاف الموظفين في كل لبنان.

ظلمٌ وإهمال
عموماً ليس مستغرباً ما حصل، إذ أن الرياضة لم تكن يوماً على سلّم الأولويات بالنسبة إلى القيّمين على البلاد، والحديث عن دور وزارة الشباب والرياضة في الحكومات المتعاقبة يعكس هذا الأمر. هناك في تلك الوزارة لم يصل يوماً وزير متخصص يعرف مشاكل وهموم الرياضيين والحاجات الفعلية في كل لعبة، فانتظر أبطال الرياضات الفردية غالباً الهِبات والمساعدات الخارجية، وصُدمت أبرز الأندية المحلية بعدم تلقّيها مساعدات من الوزارة أحياناً أو ذهاب هذه المساعدات تحديداً إلى أندية مغمورة وغير فعالة وغير قادرة على تحقيق الإنجازات، فقط لأنها تملك كلمة السرّ أو «الواسطة» من أصحاب القرار.
الوزارة نفسها لا تُلام في مكانٍ ما، إذ أن الدولة خصّصت لها عادةً أدنى ميزانية، فبدت عاجزة عن دعم الكل أو تقديم الدعم بالشكل المطلوب، فقصّرت بحق المنتخبات الوطنية التي انتظرت دعماً من القطاع الخاص أكثر من انتظارها أن تقف الدولة التي ترفع نفس العلم موقفاً داعماً لها من أجل تمثيل لبنان في الخارج.
تشرّد أبطال الرياضات بين مواقف السيارات وأسطح الأبنية بعد الإبقاء على الملاعب مقفلة في وجههم


إذاً هو الظلم بحدّ ذاته، لكن الإهمال كان حاضراً بقوة أيضاً في القطاع الرياضي، والدليل الأبرز على هذه المقولة صور الملاعب المختلفة التي بات معظمها مهجوراً. أما السبب فهو عدم تحديد الدولة اللبنانية ومعها البلديات دوراً واضحاً لهذه البنى التحتية التي تحوّلت إلى ثكنات أو الى مستودعات أو إلى أماكن لإقامة الحفلات. الأمثلة كثيرة من برج حمود إلى المدينة الرياضية إلى ملعب بيروت البلدي الذي يمكن من خلال جولةٍ بسيطة حوله التعرّف إلى حجم الإهمال الذي أصاب هذا الصرح بعدما غزته الأعشاب البريّة والنفايات، وأصبحت أبوابه التي فُتحت لكأس آسيا عام 2000 مجرد قطعٍ حديدية مهترئة ومكسّرة.
معضلة الملاعب أصلاً أصبحت متلازمة الرياضة ومرض العصر المرتبط بها، لدرجةٍ أصبحت بيروت خارج خارطة ملاعب كرة القدم المعتمَدة لإقامة مباريات الدوري اللبناني وغيرها من البطولات، رغم العدد الكبير للأندية البيروتية في البلاد، والتي استفاد بعضها من دعم مشاريع الاتحاد الدولي لتأهيل ملاعبها في ظل غياب دعم الدولة بشكلٍ تام.

الرياضيون فقراء
كذلك يمكن شمل وضع الرياضيين في ما يخصّ الإهمال، فهؤلاء لا يملكون أي ضمانة حالية أو مستقبلية، فتتأرجح لقمة عيشهم بين مزاجية المسؤولين عن أنديتهم وبين محاولاتهم إيجاد عملٍ يتماشى مع ارتباطاتهم الكروية للحرص على امتلاكهم مدخرات تؤمّن لهم حياة مقبولة بعد الاعتزال.
وهنا الحديث عن عدم إيجاد الرياضي أي حماية قانونية له بعيداً من الاتحاد المرتبط به، وذلك في حال عدم حصوله على حقوقه. تلك الحقوق التي بالكاد تكفي الأكثرية الساحقة لتأمين جزءٍ بسيط من لقمة العيش. أما بعد الاعتزال فتلك قصة أخرى.
قصةٌ حزينة في غالبية الأحوال، إذ لا صناديق للتعويضات تنصف الرياضي في نهاية مسيرته، ولا دولة تؤمّن له الطبابة والشيخوخة وترعاه في ما لو كان بحاجةٍ إلى رعاية. بعد الاعتزال وجد نجومٌ كثر في ميادين كرة القدم أنفسهم في فقرٍ مدقع، فعانوا الأمرّين وطلبوا المساعدات وبعضهم توفي من دون أن يجد العون اللازم.
قصصٌ حزينة فعلاً تعكس حجم الإهمال للقطاع الرياضي من قبل الدولة، وهي عيّنة طبعاً من التاريخ الطويل للإهمال الذي يصيب القطاع كلّه في مقتلٍ من دون إيجاد حلولٍ لكل ما يهدد مستقبل الشباب ورياضاتهم عبر استئصال المشاكل المتراكمة وإبعاد الآفات، كالتلاعب بنتائج المباريات لمصلحة المراهنات التي أهملت الدولة أيضاً تأثيرها السلبي على المجتمع عامةً، فلم نرَ أي أحدٍ من المسيئين إلى الرياضة في قاعات المحاكم أو خلف القضبان على غرار ما حصل في بلدانٍ عدة حول العالم، رغم أن وضع الرهان على المباريات والأحداث الرياضية قد تمّ تشريعه وقوننته. لكن لا يجب أن ننسى أننا في لبنان حيث الفساد والإهمال أصبحا مرادفاً للحياة اليومية، حتى باتت هذه المعضلة مسألة طبيعية بالنسبة إلى الكثيرين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا