قد تكون المباريات القديمة غير مهمة بالنسبة الى محبي الرياضة، وخصوصاً أولئك الذين يسعون يومياً خلف خبرٍ جديد عن هذا النجم أو هذا الفريق أو ذاك. لكن الواقع أنه في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد، وتالياً الرياضة وتحديداً كرة القدم، تعطينا ذكريات حول ما فاتنا وما كان يمكن البناء عليه للمضيّ قدماً نحو مستقبل أفضل.مباراة الأنصار والنجمة على الكأس السوبر عام 1997، والتي عرضتها المؤسسة اللبنانية للإرسال ضمن سلسلة مباريات مهمة تقوم بعرضها تباعاً في الفترة الليلية، تعيد المرء الى أيام جميلة خلت في ملاعب كرة القدم. كما تترك صوراً تعكس مدى روعة تلك الأيام التي لا تشبه إطلاقاً أيامنا هذه في ميادين اللعبة الشعبية الأولى في لبنان.
كل شيء كان مختلفاً، ولو أن كرة القدم اللبنانية عامذاك لم تُصب إنجازات على صورة تلك التي حققتها الأندية والمنتخبات في الأعوام القريبة الماضية. كل شيء كان مختلفاً ويترك مجالاً للحديث عن مقاربة أو طرح مقارنة بين الماضي الجميل والحاضر الأليم.
ملعب برج حمود كان مكان الحدث، والعودة إليه عبر الشاشة بعدما أصبح خارج الخدمة في الأعوام الأخيرة يخلق "نوستالجيا" معيّنة بالنسبة الى كل من تابع مباريات من مدرجاته. وكذلك الأمر بالنسبة الى من شاهد تلك المباريات عبر الشاشة بصوت الزميل فادي زين (سفير لبنان في غينيا) الذي كان الوجه الأبرز في التعليق على المباريات لفترةٍ طويلة.
وفي اتصالٍ مع «الاخبار» يقول الزين: «اذا عدنا الى عام ١٩٩٧ نجد ان الرعاية المادية كانت اكبر من الوقت الحالي بوجود رؤساء اندية مثل عمر غندور في النجمة، سليم دياب في الانصار، وانطوان شويري في الحكمة، وآل عساف في الصفاء وغيرهم من الداعمين للفرق، وبالتالي ارتفع المستوى اقله لناحية نوعية اللاعبين الاجانب الذين تم استقدامهم الى لبنان، وبوجودهم ارتفع مستوى اللاعب المحلي من خلال الاحتكاك بهم».
ويضيف: "لا يمكن اسقاط عامل الملاعب التي اهملتها الدولة في السنوات الاخيرة، اضافةً الى الاوضاع الاقتصادية الصعبة. لذا وبوجود هذه المشكلات مجتمعة اعتقد انه من الافضل العودة لنظام الهواية لانه لا يعقل ان يكون اللاعب محترفاً وان يحصل على مبلغٍ زهيد او يلعب على ارضية غير صالحة، فهذه المسألة الشائكة لا تنتج ابطالاً".
وختم: "باختصار من دون عنصر الدعم المالي، والبنى التحتية الجيدة، وعامل الاستقرار في البلاد عامةً لا يمكن السير في ركب التطوّر الذي عرفناه يوماً".
كان الحديث عن المباريات يبدأ قبل أسابيع ولا ينتهي في وقتٍ قصير بعد صافرة النهاية


لكن بصراحة لم يكن الملعب مهماً أو النتيجة النهائية للمباراة ولا حتى الهدف الجميل للاعب الأنصار النيجيري إدريس هارونا الذي أهدى من خلاله اللقب للفريق الأخضر الفائز 1-0، بل المهم ذاك الشعور بأن كرة القدم كانت حيّة الى أبعد الحدود قبل 3 سنوات على بلوغها ذروة نهضتها في العصر الحديث مع تنظيم لبنان لنهائيات كأس آسيا، والتي خلقت بنية تحتية كروية حديثة، وحسّنت من وضع الكثير من الملاعب المنتشرة في البلاد.
فعلاً قبل عام 2000 كانت أرضية ملعب بلدية برج حمود جيدة وأفضل بكثير مما شهدناه أقله في الأعوام العشرة الأخيرة عندما تحوّل الملعب الى كل شيء ما عدا ميداناً صالحاً للعب كرة القدم. لننسَ تلك البقعة الرملية الكلاسيكية التي امتدت من أمام المرميَين اللذين حرسهما السوري ماهر بيرقدار من جهة النجمة، والراحل وسام كنج من ناحية الأنصار. تلك البقعة لطالما كانت رفيقة للعشب الأخضر في هذا الملعب، لكن العشب نفسه بلونه الجيّد عكس مرحلةً يبدو الحنين إليها كبيراً في الوقت الحالي مع اهتراء ملاعبنا، الواحد تلو الآخر، أو تحوّل بعض هذه الملاعب الى ثكن عسكرية أو مراكز لمهرجانات شوّهتها أو إلى مواقف للسيارات في بعض الأحيان!
كل شيء كان أجمل عند النظر الى شكل الفريقين، إذ بعيداً من ظهور الشاب القادم بقوة وقتذاك مالك حسون بقميصٍ بقياس كبير، بحيث غطّت أكمامه جزءاً كبيراً من ذراعيه، فإن "الأخضر" و"النبيذي" ارتديا ملابس تحمل ماركة عالمية هي الأفضل عبر التاريخ. صورة تعكس الاهتمام الذي كان سائداً وقتذاك، وأيضاً البحبوحة التي عرفتها الأندية الى حدٍّ ما، وكانت ناتجة من اهتمام القطاع الخاص بكرة القدم.
اهتمام كان واضحاً من خلال اسم المسابقة (كأس حليب الربيع) الذي تمّ بيعه من قبل الاتحاد اللبناني لكرة القدم، وكذلك من خلال الإعلانات المنتشرة حول الملعب لمؤسسات معروفة في قطاعات تجارية ومصرفية وإعلامية وغيرها. أما اليوم فتختلف الصورة تماماً، إذ حتى الأمس القريب غاب الرعاة عن لوحات الملاعب، وهي مسألة ترتبط طبعاً بالوضع الاقتصادي العام في البلاد، وبتدهور أوضاع اللعبة في الأعوام الـ 15 الأخيرة بفعل الأحداث الأمنية التي عصفت بالبلاد، وبفعل هبوط مستوى اللعبة فنياً وظهور عددٍ كبير من الفرق غير قادرٍ على التطوّر.
كل شيء كان مختلفاً حتى وقفة القوى الأمنية أمام مدرجات جمهور الفريقين لمراقبة المشجعين. تشعر بأن هناك جديّة في التعامل مع تأمين المباريات، وذلك من خلال عدد العناصر المكلفة بالحفاظ على الأمن التي يبدو شكلها أجمل في الملاعب عنه في الشوارع وعلى الطرقات حيث تعاني ما تعانيه حالياً، وهي التي تحمل ثقل مسؤولية الوطن المترنّح تحت ضربات الأزمات المتلاحقة.
وفي المدرجات تنوّعت الموشحات والهتافات التي كان صداها يصل الى الشوارع المختلفة في المنطقة المحيطة من الملعب. تلك المدرجات التي كانت مطلية وجديدة ولو أنها خلت من المقاعد، التي طارت من أماكنها في ملاعب كثيرة بفعل نوبات الغضب الجماهيرية غير المبررة في بعض الأحيان، وعكست في مكانٍ ما الحساسيات وتوتر الشارع والتجاذبات السياسية وخصوصاً بعد عام 2005.


مباراة الأنصار والنجمة المذكورة غاب عنها الكثير من النجوم، أمثال ثلاثي الأنصار: جمال طه، محمد مسلماني وعبد الفتاح شهاب، وأيضاً "بلدوزر" النجمة المهاجم وائل نزهة. لكنها رغم ذلك كانت جذابة، وبدا إيقاعها أسرع بكثير مما هي عليه الحال اليوم، فلا يخفى أن نوعية اللاعبين كانت أفضل بكثير واستحق من كان منهم في دوري الدرجة الأولى اللعب على أعلى مستوى. أسماء كثيرة تذكّر بالزمن الجميل حيث ضم بطل لبنان على سبيل المثال لا الحصر: بلال زغلول، منير حسين، كيفورك قره بتيان، خضر برجاوي، أحمد السقسوق، سليم حمزة، فادي عياد وغيرهم من الآنفي الذكر. أما بالنسبة الى بطل لبنان في تلك السنة، فكان هناك العراقي علي كاظم وجمال الحاج وموسى حجيج الذي دخل بديلاً للأخير، وحمزة ناصر ومحمد أبو عليوة ومحمد صفا ورائد أبو النصر وغيرهم من تلك الأسماء التي طبعت أواخر التسعينيات بطابعها الخاص...
بطبيعة الحال، كل من وطأت قدماه الملعب كان نجماً في تلك الفترة، إذ حتى الحكام تصرّفوا وفق هذه القاعدة (أدار المباراة الحكم أسامة الشامي)، التي عكسها الاهتمام الجماهيري بمباريات كان الحديث عنها يبدأ قبل أسابيع ولا ينتهي في وقتٍ قصير بعد صافرة النهاية.
اليوم، لا يمكن لوم الاتحادات المتعاقبة أو الأندية حصراً حول ما آلت إليه الأمور في كرة القدم مقارنةً بمشهد عام 1997 الذي تمّ أخذه كعيّنة، بل إن تراكم المشكلات والإهمال العام لها وعدم اكتراث المسؤولين للرياضة عامةً، كل ذلك خلق سلّة من الأزمات الفنية والمالية والتسويقية الخاصة باللعبة، وبات الخروج منها صعباً جداً في الوقت الحالي بفعل المصاعب المرتبطة بالأولويات في البلاد الرازحة تحت مشاكل لا تحصى.
الكأس السوبر عام 1997 أعادت الحنين الى الماضي، وربما تركت نوعاً من اليأس في ما خصّ الحاضر، لكن الأمل بمستقبلٍ أفضل يبقى قائماً في لعبةٍ عانت ما عانته عبر السنين، لكنها رفضت الاستسلام بفعل شعلة الشغف التي لا تنطفئ لدى محبيها ولاعبيها في كل المدن والمناطق والملاعب اللبنانية.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا