لا يمكن فصل الأزمة المالية التي عاشتها أندية كرة السلة اللبنانية خلال المواسم الأخيرة عن طريقة تعاملها حالياً مع اللاعبين الذين ترتبط معهم بعقود. كذلك، لا يمكن فصل الوضع المالي العام للبلاد عن تعاطي هذه الأندية في ملفات التفاوض مع اللاعبين، خصوصاً أن التأثير السلبي للانتكاسة القاسية أصابتها مباشرة، فهي في نهاية المطاف تعيش على المال الوافد على وجه التحديد من مؤسّسات القطاع الخاص التي تعاني ما تعانيه ويعيش بعضها مرحلة الاحتضار.وانطلاقاً من هذا العرض البسيط للواقع المعروف، يبدأ الكلام عن رواتب ومستحقات لاعبي كرة السلة الذين لطالما عاشوا على غيمةٍ مختلفة مقارنةً بما تقاضاه غيرهم من اللاعبين الذين ينشطون في رياضات أخرى.
التضخّم الكبير في السوق كان حاضراً، وذلك في ظلّ المنافسة الضارية بين الأندية المدعومة من مموّلين لاستقطاب أفضل اللاعبين، فوصلت المبالغ المدفوعة لهم إلى أرقامٍ كبيرة لم تشعر بها الأندية إلّا عندما وجدت خزائنها المالية ضعيفة، فعلت الصرخات مطالبةً بتصويب الأمور، وهي مسألة لم تُحلّ جذرياً ما أخرج أندية عدة من دائرة الضوء.
في تلك المرحلة، رفع اللاعبون الصوت معتبرين أنهم يتعرّضون للظلم كونهم ليسوا المسؤولين عن ارتفاع مستوى العقود إلى حدّ الجنون، وهي أصوات تقاطعت مع عملٍ دؤوب في المكاتب لإقناع لاعبين كثر بتخفيض رواتبهم أو القبول بعقودٍ أقل قيمة. مسألة كانت صعبة جداً على المفاوضين، خصوصاً أن غالبية اللاعبين عرفوا من أين تؤكل الكتف من خلال عملهم بطريقة احترافية (لا تجدها في كرة القدم مثلاً)، وذلك عبر تكليف وكلاء يفاوضون عنهم، وهؤلاء أصلاً يعرفون أنه كلما كبُرت مكاسب اللاعبين كلّما زادت أرباحهم، فكان اجتهادهم لإيجاد العروض الأفضل لهم، وكان عنادهم في المفاوضات مربحاً للاعبيهم ومرهقاً لأنديتهم.
لكن القيّمين على اللعبة شرعوا في تنفيذ أفكارهم في محاولةٍ لحماية الأندية والحدّ من ما اعتبروه مطامع ومكاسب غير واقعية. وبما أن ممثلي أندية عدة وجدوا في اللجان الإدارية للاتّحادات المتعاقبة، كان من السهل على الأندية الردّ على ما وصفوه في فترة من الفترات بـ«فلتان السوق»، فجاء مثلاً قانون الاعتماد على ثلاثة لاعبين أجانب في كلّ فريق، وهو ما عاد ليرفع أصوات اللاعبين المحليين الذين نادوا بالظلم مجدّداً.
ولا يخفى أن هذا القانون ربما ظلم اللاعب اللبناني في مسألة تقليص دقائق اللعب الخاصّة به في كلّ مباراة، لكن بعض الحسابات المالية كشف وقتها عن جنونٍ فعليّ في ما تقاضاه البعض، إذ كلّف بعض الأجانب أحياناً مبالغ أقل من ما حصل عليه لاعبون احتياطيون بأدوارٍ متوسّطة الأهمية لدى بعض الفرق!
تهديد اللاعبين بمقاطعة الفرق وتصوير أنفسهم علناً بأنهم ضحايا لم يُفلح، فعادوا إلى الميدان، لكن أيضاً عادت الأندية لترتكب الأخطاء نفسها بعد فترةٍ من الزمن مع فتح باب التعاقدات من جديد، وذهب بعضها إلى رفع حجم العروض مجدداً، ما أجبر البعض الآخر على الانجرار وراء المضاربين فكان الإفلاس بانتظاره، ولو أنّ المسؤولين عن أزمات أنديتهم يرفضون هذا التوصيف الواقعي إلى حدٍّ كبير. أما الدليل والترجمة لهذه الكلمة فكان من خلال تعرّض أندية عدة لضربات من الناحية القانونية، وتحديداً عندما ذهب لاعبون إلى المراجع الدولية العليا رافعين الدعاوى بهدف تحصيل أموالهم، وقد وقف القانون غالباً إلى جانبهم، ودفعت الأندية الثمن غالياً وضعفت قدراتها المالية أكثر.
وجاء الموسم الأخير ليُطلق صرخة جديدة من قِبل اللاعبين المنادين بتعرّضهم للظلم، فمع تجميد النشاط إثر أحداث «17 تشرين»، ومن ثم تفشّي وباء «كورونا» في البلاد، جُمّدت كل العقود، ولم يحصل غالبية اللاعبين المحليين على أموالهم، وإن حصلوا على قسمٍ منها لاحقاً فقد جاءت الخطوة بعد مفاوضات من نوعٍ حديث تحاكي الواقع المالي وهبوط العملة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، ما فرض طروحاً جديدة ومقاربة مختلفة تماماً عمّا عاشه اللاعبون لفترةٍ طويلة من الزمن ووصل بعضهم خلالها إلى الثراء الذي لم يتخيّل أحدٌ أنه سيصيبه من خلال ممارسته كرة السلة.
ما يحصل يشكّل فرصة للأندية لإعادة تصويب البوصلة وتفادي انتكاسات مالية مستقبلاً


هذه اللعبة التي يقول البعض إنها عادت اليوم إلى فترة التسعينيات في ما خصّ الأرقام المدفوعة، في وقتٍ تشير فيه معلومات خاصة إلى أن معدلّ الرواتب الشهرية للعقود الموقّعة حديثاً بالنسبة إلى لاعبي النخبة يتراوح بين 30 و40 ألف دولار في الموسم مع وجود استثناءات طبعاً لبعض الأسماء المعروفة التي لطالما تقاضت مبالغ فاقت بكثير حتى ما حصل عليه أبرز الأجانب القادمين إلى لبنان. وإذا كانت العقود قد انخفضت إلى نصف قيمتها أو ما دون مقارنةً بالموسم الماضي أو ذاك الذي سبقه، فإن الكلام عن تقهقر دراماتيكي للأرقام يأتي لناحية قبول بعض اللاعبين بالتوقيع على عقودٍ تبلغ قيمتها 8 آلاف أو 10 آلاف دولار. علماً أن غالبية الاتفاقات ترتكز حالياً إلى التحويلات المصرفية بالعملة الأميركية، وهو ما لا يمانعه اللاعبون طالما أنهم سيؤمّنون مدخولاً وفق سعر الصرف المعتمد في البنوك لا سعر الصرف الرسمي عند طلبهم سحب أموالهم.
والأرقام المذكورة هي منطقية بلا شك، وهي أرقام لا خيار أمام اللاعبين سوى القبول بها، إذ أنهم يعلمون تماماً بأن من الصعب على الأكثرية الساحقة منهم الخروج إلى أوروبا مثلاً للاحتراف، أي حيث تُدفع المبالغ الكبيرة. أما الخليج فلا يبدو الطريق الأفضل بالنسبة إليهم بالنظر إلى ضعف المستوى الفني للبطولات هناك، وبالتالي ضعف الموارد المالية التي تُصرف غالباً بأرقامٍ ضخمة على كرة القدم، ناهيك عن أن الأندية في قطر والإمارات والسعودية مثلاً تفضّل التعاقد مع لاعبين أجانب من الجنسية الأميركية أو أوروبا الشرقية، ونادراً ما خرقت هذا التوجّه.
المهم أن مرحلة غير عادية دخلت إليها المستديرة البرتقالية في لبنان، وهي مرحلة قد تكون منعطفاً بالنسبة إلى مسيرة كل لاعبٍ لبناني وجد في كرة السلة يوماً مساحةً للعيش وتحقيق المكاسب ولمَ لا تحقيق الثراء. لكنها مرحلة أكثر من مهمّة بالنسبة إلى كل تلك الأندية التي لطالما قالت إنها لم تعُد تحتمل ثقل مطالب اللاعبين والمبالغ الضخمة التي دفعتها لهم. وهي مرحلة من المراحل الأهم في العصر الحديث لكرة السلة اللبنانية لأنها بكل بساطة تشكّل فرصةً ثمينة لإعادة تصويب البوصلة وإعادة بناء اللعبة على أسسٍ أكثر متانة ووفق استراتيجيات مالية تبعد النكسات عنها وعن كل الأندية اللبنانية.