طبعاً، لا يمكن إلقاء اللوم على طرفٍ معيّن، لا على اتّحاد اللعبة الذي وجد نفسه مرغماً على إيقاف النشاط بعد الفوضى التي عاشتها البلاد، ولا على الأندية التي كانت تترنّح بمعظمها قبل بداية الأزمة الاقتصادية وفوضى المصارف التي جعلتها غير قادرة على تأمين السيولة، التي بدورها تمنحها القدرة على الإيفاء بالتزاماتها وبالتالي ارتباطاتها مع لاعبيها.لكن في نهاية المطاف النتيجة معروفة: لاعب كرة القدم في لبنان هو الضحية عن قصد أو غير قصد.
هي مسألة يمكن لمسها من خلال متابعة الأوضاع الصعبة لبعض اللاعبين الذين تمّ اختيارهم كعيّنة بطريقة عشوائية لا انتقائية، وهم ينتمون أصلاً إلى أنديةٍ لم تخفِ يوماً أنها تعاني من أوضاعٍ مالية صعبة تقاطعت مع محاولات يائسة بالنسبة إلى بعضها للاستمرار في النشاط، وهو أمر بدا مستحيلاً في الفترة الأخيرة بفعل الأزمة الاقتصادية ـ المالية العامة في البلاد.

لا كرة ولا وظيفة
عُرف لاعب الصفاء عمر الكردي في كرة القدم اللبنانية في سنٍّ صغيرة، ففي السادسة عشرة من العمر تمّ استدعاؤه من قِبل مدرّب المنتخب الوطني سابقاً اميل رستم إلى صفوف منتخب الرجال. وقتذاك قيل إن «نيفا» هو النجم القادم في سماء اللعبة، وهو أمر بدأ متابعو الكرة يلمسونه مع انتقاله من الشباب العربي إلى الصفاء حيث برز بشكلٍ كبير، ما دفع الأنصار إلى محاولة ضمّه إلى صفوفه أكثر من مرّة، لكن من دون أن يصل إلى هدفه أو يصل اللاعب إلى تحقيق رغبته، فبقي الكردي مع الفريق الأصفر، وهو يعيش اليوم أوضاعاً معيشية صعبة.
اللاعب البالغ من العمر 27 عاماً لم يتلقَّ أيّ راتب طوال 4 أشهر، ما دفعه إلى رفع الصوت أخيراً مع بعض زملائه بعدما يئسوا من الاتّصال بالقيّمين عليهم في محاولةٍ منهم للحصول على بعضٍ من مستحقاتهم لكن من دون جدوى، فما كان منهم إلّا زيارة النائب تيمور جنبلاط رغم معرفتهم المسبقة بأن هذه الزيارة لن تفضي إلى نتيجة إيجابية طالما أن اللعبة مجمّدة.
لجأ أحد اللاعبين إلى العمل في مجال تركيب المكيفات بينما قام آخر بشراء صاج وعدة لبيع القهوة


الكردي كان ينتظر أن يعيش في بحبوحة قبل انطلاق الموسم، إذ كان قد اتّفق مع الصفاء على الحصول على 20 ألف دولار كدفعة، لكنه لم يتلقَّ حتى أي راتب لمدة 4 أشهر، فأصبح من الصعب عليه تأمين حاجاته، خصوصاً أنه كان قد ترك عمله قبل أكثر من سنة بعد حصوله على وعودٍ من إداريين في ناديه بتأمين وظيفة مريحة، وهو الذي كان يعمل كحارسٍ أمني في إحدى الشركات التي يملكها صاحب مؤسسة إعلامية معروفة.
ويصعب على الكردي اليوم تأمين مستلزمات الحياة، خصوصاً أنه مسؤول عن عائلته، ولديه مصاريف ترتبط بتأمين الدواء لوالدته وبأقساطٍ يدفعها ثمناً لسيارته، وهو متأخّر في تسديدها حالياً.
بدوره، يقابل حارس مرمى الاخاء الأهلي عاليه رضوان كساب السؤال عن أوضاعه المعيشية بضحكة ساخرة. هو أيضاً لا يعمل بل يعتمد على الكرة كمصدر رزقٍ له ولعائلته التي تضمّه إضافة إلى زوجته وابنه.
كساب لم يعمل في أي وظيفة منذ حوالى 4 أعوام، وذلك بسبب انشغاله بالكرة التي ورغم مصاعبها ووصوله إلى سن الـ35، لا يزال يرى فيها المكان المناسب له لتأمين لقمة العيش. هو طبعاً كان من الصعب عليه الالتزام بعملٍ آخر بعدما عمل في مجال البناء، خصوصاً بعد انتقاله إلى الاخاء حيث كان عليه الانتقال طوال أيام الأسبوع من البرج الشمالي في صور إلى بحمدون وبيروت لخوض التمارين أو المباريات، ما يعني أنه كان يقضي قسماً كبيراً من وقته على الطرقات، الأمر الذي لا يؤمّن له الوقت حتى للبحث عن وظيفة.
الحارس الجنوبي كان قد اتّفق مع ناديه الجبلي على راتبٍ شهري قيمته 1200 دولار، وهو حصل على 950 ألف ليرة من أصل معاشَين منذ تشرين الأول الماضي، ما دفعه إلى تسيير أموره المعيشية من خلال الدفعة المسبقة التي حصل عليها قبل انطلاق الموسم، ومن المبلغ الذي جمعه في الموسم الماضي.

ديون وأشغال شاقة
وجهٌ آخر لمعاناة عددٍ من اللاعبين يُختصر بالديون التي أثقلوا كاهلهم بها هادفين إلى تخطّي المحنة التي يعيشونها، وحمزة علي هو أحد هؤلاء. هذا اللاعب الذي برز مع طرابلس شقّ طريقه إلى الأنصار، لكنه كان سيئ الحظ بعدما تعرّض لإصابة قوية، ما دفع النادي البيروتي بعدها لإعارته إلى السلام زغرتا قبل انطلاق الموسم المجمّد.
ابن مدينة طرابلس وجد أحلامه الكروية تتلاشى، ومستقبله أيضاً بعد توقّف النشاط، وهو ما أجبره على الاستدانة من أشخاصٍ كثيرين لجمع مبلغ يقدّر بمليوني ليرة من أجل شراء صاج وعدّة لتحضير وبيع القهوة في مكانٍ صغير في الضنية. هي مهنة لم يكن يتخيّل نفسه أنه سيمارسها يوماً، خصوصاً أنه لم يتخطَّ الـ25 من العمر أي إنه في عزّ عطائه الكروي، لكنه قد يجد نفسه غارقاً في الديون أكثر إذا ما أراد توسيع مشروعه بحسب ما ينوي من أجل تحصيل ربحٍ يؤمّن له مستلزمات الحياة.
ويبدو اليأس حاضراً في كلام اللاعب، فهو لا يعرف من يلوم تحديداً، إذ رغم المشاكل التي عاشها مع الأنصار إثر إصابته التي أبعدت الاهتمام عنه، قيل إنه سيحصل على دفعةٍ بقيمة 5000 دولار وعلى راتبين قيمتهما 2200 دولار، لكن مع رحيله إلى زغرتا، بقي يطارد ما يعتبره حقاً له. هو يلوم إدارة السلام بشكلٍ أقل لأنها كانت واضحة بقولها للاعبين بأنها غير قادرة على الاستمرار بعدما تراكمت رواتب أربعة أشهر، علماً أنه بحسب اتّفاقه مع النادي الزغرتاوي حصل على دفعة أولى قيمتها 4000 دولار قُسّمت على دفعتَين.

(مروان طحطح)

هو ربما ترك «جحيم بيروت» يوم فسخ عقده مع الأنصار، لكنّه لم يوقف محاولاته الحثيثة للحصول على ما كان متّفقاً عليه، حيث لا يخفي حتى أنه قام بتهديد أحد إداريي الأنصار ضمن سعيه للوصول إلى مبتغاه!
شمالاً أيضاً، قضى أحمد المصري 9 سنوات لاعباً في صفوف السلام زغرتا، لكنّ الأشهر الخمسة الأخيرة هي الأسوأ بالنسبة إليه كونه قضاها بعيداً من الملاعب، وبالتأكيد من دون أيّ مصدرٍ مالي، فاتّجه إلى العمل لدى صديقٍ له في محلٍّ لبيع وتصليح الهواتف، وهو الذي ورغم وصوله إلى سن الـ31 لم يعمل في وظيفة سابقاً. هي أصلاً ليست وظيفة استناداً إلى ما يتقاضاه، والذي لا يصل إلى الحدّ الأدنى، كما أنه متأهّل، أي إنه يتحمّل مسؤولية منزله.
المصري هاجم السلام علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهي خطوة لم يفعلها لاعبون كثر مع أنديتهم بل منهم من بقي صامتاً يعاني لوحده ومنتظراً الفرج الذي لا يبدو أنه سيأتي قريباً.
كذلك، هناك عيّنة أخرى للاعبين يحصلون على نصف راتب من أنديتهم، وهو أمر مبرّر ربما بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها البلاد، والتي أجبرت الكثير من المؤسسات على اتّباع هذا النهج، ومنهم لاعب النجمة ماهر صبرا.
المدافع الذي تعرّض لكسرٍ في قدمه أبعده لفترة طويلة عن الملاعب، لا ينكر البادرة الحسنة من ناديه الذي اهتمّ به طوال فترة إصابته، والذي لم يوقف راتبه ولو أنه تمّ تخفيضه إلى النصف. لكن هذا النصف تحديداً لا يكفيه لتأسيس حياةٍ زوجية وهو في مرحلة الخطوبة، الأمر الذي دفعه إلى العمل في مجالٍ صعب لا يحبّ الغوص في تفاصيله «ولو أن الشغل مش عيب لأن العيب إنك تمدّ إيدك وتطلب من حدا»، بحسب ما يقول.
غادر عدد كبير من اللاعبين إلى خارج لبنان منذ بداية الأزمة


الشاب البالغ من العمر 28 عاماً، وصاحب الأخلاق الدمثة ينتظر فصل الصيف الذي يُنشّط عمله الأساسي أي تركيب المكيّفات، فهو كحال الكثير من اللاعبين لم يعد ينتظر موسم الكرة أو الفترة التحضيرية للاستعداد له بل جلّ ما يهم بالنسبة إلى اللاعبين اليوم هو البحث عن فرصٍ أفضل وعن حياةٍ طبيعية قد لا تشبه ما يعيشه لاعبو الكرة حول العالم، لكن أقلّه تشبه حياة الإنسان المحترمة حقوقه في بلاده وفي الرياضة التي قضى عمره في ممارستها، مضحّياً بالكثير بسبب حبّه لها وللقميص الذي دافع يوماً عن ألوانه.



عبد الرزاق دكرمنجي يغادر
نشر لاعب نادي طرابلس ومنتخب لبنان للشباب عبد الرزاق دكرمنجي صورة له على الحدود اليونانية ـ التركية، بعد أن غادر لبنان وهو يحاول الوصول إلى أوروبا لتقديم لجوء، والحصول على حياة أفضل. ونشر اللاعب عمر زين الدين صورة زميله وعلق عليها بالقول: «لاعب فريق طرابلس الشباب والفريق الأول، ولاعب منتخب لبنان للشباب! لاعب منتخب لبنان! على الحدود اليونانية. مش رايح سياحة على اليونان ولا عندو ماتش مع المنتخب! عبودي عم يضحي بحياتو بحثاً عن وطن يحضنه ويأمنلو مستقبله. إنك تاخد هيك قرار يعني خلص فقدت أدنى سبل العيش ببلدك...»، وأضاف «فخري بنفسي إني تركت لبنان مهاجراً، أكثر من فخري بنفسي شو عملت بالفوتبول طول السنين اللي قطعت». ومن جهته علق عبد الرزاق دكرمنجي قائلاً: «ما كنت حابب إترك أهلي ورفقاتي بس والله بلدنا هيك بدو...».