في منتصف جبال العاقورة بأعالي منطقة جبيل اللبنانية، وتحديداً عند منتصف الليل، يكون الوقت مناسباً لتنسى جمانة كل مشاغلها وهمومها. هناك يكون الجو مثالياً، فـ«المشي» تحت ضوء القمر فيما أوراق الشجر تميل حولها، يساعد على ضخ الأدرينالين في الجسم وتجنّب التعب.قبل منتصف الليل بساعات تسقط الشمس في الوادي إلى اليمين، وفي هذه اللحظات تظهر في أعلى القمة لوحة مقلمة باللون الفيروزي الفاقع، والأحمر القاني كما الأصفر الذهبي. تتدفق الألوان مثل الموجة تماماً بحيث تصف جمانة المشهد بأنه «رسمة صنعها فنان بكل إتقان».
تقول جمانة إن الطريقة الوحيدة للوصول إلى هذه الزاوية السرية من الأرض هي رحلة «هايكنغ» ليلية. هو ليس طريقاً سهلاً لأولئك الذين لم يواجهوا تحدّي المشي لمسافات طويلة من قبل، لكنه في الوقت ذاته مسير يخترق أرضاً لم يرَها كثيرون في هذه البلاد، ولكنهم سمعوا عنها في الحكايات. طبيعة نائية وجميلة، تقرب من يزورها من الحقيقة. تدعو جمانا وزملاؤها في رحلات الـ«هايكنغ» الجميع لتجربتها، لأن الحديث عنها لن يكون كافياً أبداً.
باستثناء ظروف الطقس العاصف في فصل الشتاء، ولأسباب مرتبطة بالسلامة العامة، لا شيء يمنع من ممارسة رياضة المشي، في الصباح، ظهراً، بعد الظهر، وحتى بعد منتصف الليل. ولكن المشي يختلف من مكان إلى آخر، فالاستيقاظ لمشاهدة شروق الشمس، أو مشاهدة خط نيزك يعبر في السماء، أو حتى العثور على الطريق تحت ضوء القمر، هو تجربة جديدة، خاصة إذا كان الشخص معتاداً على العيش في المدينة. بحسب أحمد كركي وهو من المواظبين على الـ«هايكنغ» يوجد عالم كامل من النشاطات يبدأ عندما تغرب الشمس، «حلوة مرة كتجربة». هو يصف مسيره الليلي في منطقة جبل الكنيسة ـ فالوغا (قضاء بعبدا) ومشهد الغروب، بأنه من أجمل اللحظات في المسير، «منطقة عالية، وغيم تحتك وغروب، شي رائع»، بالإضافة إلى الهدوء والشاعرية وقت الاستراحة، مع إشعال النار.

على مشارف فصل الخريف، وفي فصلي الربيع والصيف تكثر مسيرات الـ«هايكنغ» الليلي. ومثل العديد من اتجاهات اللياقة البدنية، بدأ هذا الاتجاه في الرواج. يمكن أن يكون المشي تحت أشعة الشمس الحارقة غير مريح، لذا فإن المشي أثناء الليل يوفر ملاذاً مريحاً من الحرارة لكثير من محبي المشي في الطبيعة. يدير المرشد والخبير بالمسارات الجبلية قاسم حمادة مجموعة wild adventures، والتي تقوم بتنظيم رحلات متخصصة للمشي في الطبيعة. يقول عن الهايكنغ الليلي بأنه «مرتبط بالصيف أكثر»، عندما ترتفع درجات الحرارة، يفضّل محبو المشي في الطبيعة، المشي بعد الظهر «على البرود». فعلياً الحرارة تبدأ بالانخفاض عصراً لأن الشمس تبدأ بالغروب، فيمتد المسير حتى الليل. مجموعات أخرى تحب اختبار المشي ليلاً حتى شروق الشمس، فتختار المسيرات الليلية، «ننتظر حتى يكتمل القمر مرة في الشهر ونخطط لمسير يبدأ بعض الظهر وينتهي ليلاً أو يبدأ ليلاً وينتهي في ساعات الصباح الأولى» يقولون.
عندما تبدأ الشمس غوصها اليومي تحت الأفق، وتسلم الليل إلى عتبة المنازل، تخترق مجموعة من محبي الـ«هايكنغ» القاعدة التي تقول إن عليك البقاء في المنزل. تحت ضوء القمر، ينطلق عشاق المشي في الطبيعة الـ«هايكرز» بمسيرهم. عند منتصف الليل يسيرون تحت ضوء القمر، ثم يختتمون المسير لحظة شروق الشمس. بالنسبة إلى رندة وهي من ممارسات المشي الليلي، فإن المسير المتأخر ليلاً، جميل جداً. تجربة الـ«هايكنغ» مع القمر المكتمل، منظر رائع، ومختلف بحسب كل فصل، «سترى السماء بطريقة مختلفة، وكأنك طائرة تحلق فوق الغيوم. اختلف شعوري عندما مشينا ليلاً مع اكتمال القمر في فصل الربيع والصيف، وفي الشتاء مع الثلج كانت التجربة أمر آخر، جمال ودهشة بالإضافة إلى الهدوء... سعيدة لتجربة رياضة المشي في الطبيعة بكل أنواعها» تقول رندة.
يخف نشاط ممارسو هذه الرياضة في فصل الشتاء


بحسب حمادة لا يوجد قواعد ثابتة في الـ«هايكنغ»، دائماً هناك قواعد متحركة، «كل مسير مرتبط بظروف الفصل الذي نكون فيه». في الشتاء ينظم حمادة (مدير مجموعة wild adventures) مشوارين (fall-moon) ليلة اكتمال القمر، بحسب ظروف الطقس، ويقول: «هذا الشتاء (الماضي) نظمنا مسيراً كان جميلاً جداً، امتد حتى ساعات الصباح الأولى، وكانت الحرارة منخفضة جداً». عندما يكون الطقس «عاطلاً» تتوقف المسيرات الليلية لأمور تتعلق بالسلامة، لذلك يعتبر حمادة أن المشي الليلي هو أفضل صيفاً أو على «مشارف الخريف».

ذروة الأدرينالين
في وضح النهار، ينتظر معظم محبي المشي في الطبيعة مكافأة في نهاية مسيرهم: الوصول إلى القمة، شلال ضخم، مغارة أو آثار تاريخية. في الليل، غالباً ما تكون السماء هي نجمة العرض. القمر المكتمل، الشروق المذهل للشمس فيما العالم كله نائم. شعور فريد مليء بالتعب والرومانسية، متعة حقيقية تضخ الأدرينالين. من مميزات المشي في الطبيعة نهاراً بالنسبة إلى جمانة، هو الخضرة، الأزهار، الألوان، الثلج، وتقول: «وحدها الحرارة المرتفعة ما يعكر مزاج الهايكنغ النهاري، ما يعني انخفاض طاقتنا والتعب». وتتابع «صراحة، لا تستمتع بالطبيعة في هايكنغ الليل، ولكن الهدف هو الاستمتاع ولو للحظات بشروق الشمس... لهذا السبب نحن هنا ليلاً، فنحن ننتظر الشروق». بعد مسير يمتد نحو ثلاث ساعات ونصف حتى ساعات الفجر الأولى، «نتوقف عن المشي لمشاهدة هذا الشروق الآسر، فيما معظم الناس محبوسون في أسرّتهم... ودون إشعار مسبق يتحول الطقس إلى بارد جداً ما يرفع منسوب الأدرينالين إلى الذروة وننسى التعب».


كذبة الخطر!
يخفي الظلام المعالم، مما يجعل تلك الأمور التي يمكن رؤيتها في النهار غريبة تماماً ليلاً. في ليلة مظلمة، يصبح إدراك الأشياء المحيطة «لعبة تخمين»، وهناك مجموعة مختلفة من الحيوانات تخرج للعب، هذا الجزء يجعل المشي ليلاً مغامرة. يصبح المسار الذي يعتقد الشخص أنه معتاد عليه، أرضاً جديدة. من يمارس هذه الرياضة، وحتى لو سلك المسار نفسه أكثر من مرة، إلا أنه يسمع أصواتاً جديدة. يمكن أن يصبح الظل «وحشاً كاملاً في الظلام، وأخفّ صوت يمكن أن يصبح شيئاً مرعباً». بحسب قائد مجموعة الهايكنغ النهاري والليلي قاسم حمادة، «المشي في الليل ليس خطيراً كما قد يبدو، لكنه على الأرجح ليس مناسباً للمتجولين المبتدئين، فهو يتطلب مستوى من اللياقة البدنية لإكماله، لجهة صعوبة المسار والمسافات الطويلة، بالإضافة إلى تدني درجات الحرارة». ويتابع «لا شيء يدعو إلى القلق من الاصطدام مع حيوان مفترس. الحيوانات عندما تشم رائحة الإنسان تهرب، فكيف إذا كنا مجموعة... كل ما يمكن أن نسمعه بعض أصوات الهسهسة أو الواوية». ومع ذلك، وبحسب الـ«هايكر» رندة فإن الأمر يستحق، وعلى الجميع تجربته مرة واحدة لأن «السماء المضاءة بالنجوم والهدوء الساحر للطبيعة ليلاً يحبس الأنفاس. سماء صافية، تتألق فيها النجوم والقمر مستيقظ، إنه لأمر جميل أن تعيش وتشاهد جمال المناطق والطبيعة ليلاً، لها جمال آخر يختلف عن جمال الهايكنغ النهاري».