غالباً ما قدّمت المانيا مهاجمين رائعين الى عالم كرة القدم. من غيرد مولر وكارل هاينتس رومينيغه الى يورغن كلينسمان ورودي فولر ووصولاً الى ميروسلاف كلوزه، لكن فلسفة اللعب بمهاجم صريح قد تصبح من الماضي لسببين لا ثالث لهما. السبب الاول هو قصر الخيارات الهجومية امام المدرب يواكيم لوف، احياناً لظروف قاهرة كالاصابات او الايقافات، واحيانا اخرى بسبب عدم اقتناعه بالمهاجمين المحليين بعيداً من الثنائي المعروف كلوزه وماريو غوميز. أما السبب الثاني، فهو توجّه مدرب «المانشافت» نحو تغيير فلسفته في التعامل مع المباريات، وذلك انطلاقاً من قناعة بأن اسلوب الالمان بات مقروءاً بالنسبة الى الخصوم، وبالتالي فان التحديث مطلوب بأسرع وقت قبل الدخول في السنة المونديالية، ولمَ لا، اعتماد الفلسفة الاسبانية التي اكدت تفوّقها على العالم وعلى الالمان في مكان ما.
نعم، كانت فلسفة اللعب على الطريقة الاسبانية حاضرة ليلة أمس في مباراة المانيا ومضيفتها كازاخستان، اذ ان لوف لم يجد اي مشكلة في اللعب من دون رأس حربة، تماماً على غرار ما فعل المنتخب الاسباني في كأس اوروبا 2012 حيث كان فابريغاس الرقم 9 المزيّف، في خطة اثارت انتقادات كثيرة بحق مدرب «لا فوريا روخا» فيسنتي دل بوسكي في بادئ الامر، لكنها اسكتت كل المنتقدين بعد مباريات معدودة ووصولاً الى تلك المباراة النهائية امام ايطاليا التي توّج على اثرها الاسبان باللقب بنوعية.
وطبعاً كان يمكن توقّع ان لوف سيبدّل شيئاً ما في طريقة لعب «الماكينات الألمانية»، اذ عند اصابة كلوزه ثم غوميز، لم يعمد المدرب الفذ الى استدعاء مهاجم يملأ فرغ الثنائي المذكور، مستبعداً حتى فكرة اعادة هداف باير ليفركوزن شتيفان كيسلينغ الى صفوف المنتخب وهو الغائب عنه منذ 3 سنوات تقريباً، رغم انه يمر بفترة ممتازة حيث سجل 16 هدفاً ومرر 6 كرات حاسمة في «البوندسليغا» هذا الموسم. ولوف نفسه سبق ان اوضح بأنه لن يبدّل رأيه بخصوص شبيه كلينسمان على اعتبار انها مسألة فلسفة تتمحور حول عدم الاعتماد مستقبلاً على مهاجمين اصحاب بنية قوية بقدر التوجّه نحو منح الثقة الى اولئك الذين يمكنهم التحرّك في مساحات ضيّقة.
وربما يكون لوف محقّاً في مكان ما في هذا الاطار، اذ ان كرة القدم تعتمد حالياً في الشق الدفاعي على تضييق المساحات من خلال الضغط المتواصل في المنطقة الحمراء او منطقة وجود الكرة. ولهذا السبب لاحظنا ان لوف وعشية المباراة امام كازاخستان استدعى كتيبة من لاعبي الوسط المهاجمين الذين بإمكانهم ايجاد الحلول في اي ظرف كان، بانتظار ان يختار احدهم لأداء دور المهاجم المزيّف. والاهم ان لوف يريد لاعبين يمكنهم تشتيت تركيز مراقبيهم من خلال تبديلهم للمراكز باستمرار، وهذا ما كان بالامكان ملاحظته أمس عبر تحركات مسعود أوزيل وماريو غوتزه والناشئ جوليان دراكسلر (19 عاماً) الذي خرج مصاباً في الشوط الاول حارماً الجمهور العالمي فرصة رؤيته على حقيقته، وهو الذي يعدّ إحدى ابرز المواهب الصاعدة في اوروبا.
اذاً التنويع في اللعب، والاصرار على الاستحواذ على الكرة بنسبة عالية، هما التوجّه الجديد للالمان الآن، وقد كان الاختبار الاول لهذا الامر أمس، ونجح به لوف، وهي نقطة ليست مفاجئة لان تشكيلته تضم لاعبين قادرين على تنفيذ الاستراتيجية الجديدة، وذلك بوجود عناصر قادرين على الدفاع والهجوم والتسجيل في آن واحد. الا ان الاختبار كان لمدة 90 دقيقة هذه المرة لمعرفة كيفية تفاعل اللاعبين مع الفلسفة الجديدة لمدة اطول، اذ سبق للوف ان اختبر الامر امام الارجنتين في آب الماضي مانحاً ماركو رويس دور المهاجم المزيّف، ثم فعلها في المباراة الودية امام هولندا، لكن عبر غوتزه هذه المرة، واخيراً جرّب اوزيل في هذا المركز عند خروج غوميز في المباراة الودية امام فرنسا.
وبعد مباراة أمس يمكن اعتبار انه يمكن للوف ان يسير بمشروعه بثقة عالية، وخصوصاً بعدما بدا ان لاعبيه فهموا المطلوب منهم، وقد نجح غوتزه في أداء دور الرقم 9 المزيّف بوصوله الى الشباك وتبادله المراكز مع أوزيل ولوكاس بودولسكي الذي دخل بديلاً لدراكسلر. وعموماً يمكن للوف ان يستمد افكاراً من تجربة بوروسيا دورتموند في هذا المجال، حيث اعتمد المدرب يورغن كلوب الاسلوب عينه مع الثلاثي رويس وغوتزه وايلكاي غوندوغان، وذلك في المباريات التي اراد ان يضمن فيها استحواذاً عالياً على الكرة وفعالية هجومية في الوقت عينه.
وبالطبع يملك لوف اضافات اكثر في «المانشافت» بوجود أوزيل بحيث انه يمكنه ان ينسخ التجربة الاسبانية التي يتمحور ثقلها حول عباقرة خط الوسط شافي هرنانديز واندريس إينييستا وسيسك فابريغاس وغيرهم، لا بل يمكنه ان يتخطاها لان منتخبه ببساطة يعدّ اسرع المنتخبات في الهجمة المرتدة. أضف ان الصمود والاصرار والرؤية عند لاعبي الوسط وعلى رأسهم باستيان شفاينشتايغر قد لا تكون موجودة عند اي منتخب آخر.
طبعاً يدرك لوف انه يقوم الآن برهان رمي كل شيء على الطاولة على طريقة لعبة «البوكر»، وخصوصاً ان تشكيلته لن تلتقي سوى في مناسبات معدودة قبل بدء الاستعدادات الجدية للمونديال المقبل، الذي قد يحمله الى القمة ويغيّر من الفلسفة الالمانية الى الابد، او يرميه الى القاع حتى تاريخ غير محدد.