الدوحة | لم يكن أمراً عاديّاً أن يفوز بلد شرق أوسطي، وعربي تحديداً بشرف استضافة بطولة العالم لكرة القدم. فاز الملف القطري عام 2010، وها هي قطر اليوم تنظم مونديال 2022، الذي شارف دوره الأول على الانتهاء. «المونديال العربي» سمح للعديد من المشجعين والصحافيين العرب بحضور بطولة كأس العالم للمرة الأولى في حياتهم، نظراً لقرب المسافة، وعدم تحمل تكلفة كبيرة جداً، بخاصة في حال أراد الشخص متابعة مباراتين أو ثلاث ليس أكثر. واليوم حين يصل أي مشجع أو صحافي إلى الدوحة، يمكن أن يشعر مباشرة أنه في بلد يستضيف كأس العالم.البلد كله في حالة حركة دائمة. شعب من مواطنين ومقيمين وزوار يتنفسون كرة قدم. يتكلمون كرة قدم، ويعيشونها بكل تفاصيلها. حتى رغم تعب العمل المتواصل تراهم سعداء، فهم يعلمون حجم الامتياز الذي حصلوا عليه قبل 12 عاماً.
حين نتحدث عن عيش كرة القدم، يكون الجانب الفني في آخر الاعتبارات. المونديال في الدوحة بحضور حوالي مليون ونصف مليون سائح ومشجع أبعد من فوز وخسارة وتحقيق نقاط. أبعد من تأهّل أو خروج أو حتى إحراز لقب. هي ثقافة حياة على مدى شهر كامل. هي امتيازات ومكاسب وبنى تحتية وخبرات واحتكاك وتعرّف على ثقافات...
زيارة المونديال «رحلة ممتعة» تبدأ من ساعات الصباح وتنتهي في ساعات الفجر. لكن الاستمتاع بهذه الرحلة لا يمكن أن يكتمل إلا إذا كان كل شيء مؤمّناً، وفي طليعة هذه الأشياء هو التنظيم، إضافة إلى المرافق. استضافة من دون تنظيم أو مرافق تصبح كابوساً ومعاناة. في مونديال قطر هي ليست كذلك، كل شيء منظّم ومؤمّن. من لحظة الوصول إلى المطار وخلال كل خطوة يقوم بها أي مشجّع أو إعلاميّ. كل شيء جرى التفكير به.
آلاف الأشخاص العاملين كل في مجاله حاضرون للمساعدة. الإرشادات التوجيهات التسهيلات مؤمنة، إلى درجة أن أحداً لا يحتاج إلى السؤال حتى في معظم الأحيان. هذه ليست مبالغة، بل هو تنظيم على أعلى الدرجات. هو التزام كامل بدفتر الشروط وإصرار على الذهاب أبعد من دفتر الشروط إلى إثبات الذات. إلى تنظيم مونديال يكون من الصعب على أي بلد سيستضيف مونديالاً مستقبلاً أن يتفوّق عليه.

بلد صغير!
قبل انطلاق المونديال وفي زيارات متعددة إلى قطر كان أي صحافي يسأل نفسه، كيف سيستطيع هذا البلد الصغير أن يستضيف كل هؤلاء البشر القادمين من جميع أصقاع العالم في وقت واحد؟ يتوقّع أن يكون الوضع صعباً وأقرب إلى الكارثي على صعيد التنظيم وزحمة السير والتنقل والدخول والخروج من الملاعب والمطاعم والفنادق وغيرها وغيرها....
كل هذه التساؤلات والهواجس نراها تلاشت حين وصلنا مع مجموعة صحافيين عرب إلى الدوحة. أعداد هائلة من البشر تتنقل بشكل عادي. تذهب وتأتي تدخل وتخرج من دون أي مشكلة تذكر. أسطول من الحافلات. معظم سيارات قطر تحوّلت إلى سيارات أجرة. المترو وحده حكاية. بعد انتهاء مباراة إيران وأميركا ليل الثلاثاء ـ الأربعاء ولدى الخروج من «ملعب الثمامة» مع عشرات آلاف المشجعين للتوجه إلى الحافلات التي ستقل الجميع إلى محطة المترو، يشعر المرء وكأنه سيحتاج إلى ساعات حتى يصل إلى مكان إقامته. صحيح أن هناك فترة مسير طويلة بعض الشيء لكن لدى الوصول إلى الحافلات يتفاجأ الجميع بأن كل شيء ميسّر. يفكّر بأن كل هؤلاء البشر سيستقلون المترو وبالتالي ستكون المعاناة كبيرة، ولكن في المترو لا يختلف الوضع. يستقل المشجعون إحدى العربات ويجلسون حتى يصلوا إلى محطتهم من دون مشكلة.
تستمر الاحتفالات في أسواق الدوحة حتى ساعات الصباح الأولى


الجمهور نبض المونديال
المحطة الأساسية هي مشيرب. هي المحطة الأقرب إلى «سوق واقف». تهبط وتجد عبارة «مشيرب قلب الدوحة». تبتسم لعبارة قد تظن أنها ترويجية فقط. لكن حين تشاهد ما يحصل في مشيرب و«سوق واقف» تعلم أنها عبارة توصّف الواقع كما هو.
هي الساعة الثانية بعد منتصف الليل في سوق واقف. كأنها الثانية ظهراً. نبض المونديال في «سوق واقف». حشود من الجماهير حاضرة. هي ليلة مباريات منتخبات السعودية مع المكسيك، تونس مع فرنسا، الأرجنتين مع بولندا والدنمارك مع أستراليا. تشعر كأن المباراة قائمة الآن. الجمهور السعودي في أعلى درجات الحماسة. الجمهور التونسي يطلق الهتافات في مسيرات احتفالية. الأرجنتينيون والمكسيكيون حاضرون أيضاً. تحتار من تصوّر أو على ماذا تتفرّج.
«موزاييك» جماهيري رائع. تشعر كأن العالم أصبح عائلة واحدة. الجمهور: نبض المونديال، زينة الملاعب، مصدر الحياة حاضر بقوة. تسقط اعتبارات السن أو الجنس أو العمر.
من الممكن أن ترى رجلين يناهزان السبعين يرتديان بذلتين على شكل علم إنكلترا. زي لا يخطر ببالك أنه من الممكن أن يجرؤ أحدٌ على ارتدائه. بالنسبة للرجلين هو فخر واعتزاز.
تشاهد رجلاً يناهز الستين يرتدي زياً على شكل بقرة، وتحته قميص أرجواني. تعرف أنه هولندي وفخور بانتمائه.

(أ ف ب )

ترى أجانب يرتدون «الغطرة والعقال»، تعرف أنهم أجانب من الطريقة العشوائية التي يضعونها بها على رأسهم. يتقدم شبان قطريون وعرب ويساعدونهم على ارتدائها بشكل صحيح.
لم تعد «الغطرة» بألوانها التقليدية سواء الأبيض أو الأحمر والأبيض أو الأسود والأبيض. هناك «غطرات» بألوان أعلام المنتخبات. ترى «غطرة» بلون علم أميركا أو إنكلترا أو هولندا أو فرنسا أو الأرجنتين...
هذه «الغطرة والعقال» التي لطالما استعملها كثيرون في الغرب كرمزٍ نمطي للدلالة على التخلّف، ولكنهم اليوم اختبروا جيداً أنهم ليسوا أفضل من أي أحد على هذا الكوكب، وغيرهم يمكن أن يكون أكثر تنظيماً واحترافية منهم.
هي ليست الصورة النمطيّة الوحيدة التي تغيّرت في مونديال قطر. صور عديدة تغيّرت. النظرة إلى «البلد العربي» تغيّرت. أوروبا وأميركا وحتى شرق آسيا كانوا متخوفين من إقامة المونديال في بلد عربي، وشنوا حروباً إعلامية ضده، ولكن الحقيقة بدت مختلفة.
اليوم حين ترفع مشجعة هولندية عبارة شكراً على حسن الضيافة، وحين تتحدث سيدة يابانية في مقابلة على التلفزيون عن تجربتها الإيجابية وعن تغيّر الصورة التي كونتها قبل المجيء إلى قطر تعرف أن هناك شيئاً ما تغيّر. وتعرف أيضاً أن الإعلام ومنذ زمن بعيد يعمل على تشويه صورة هذه المنطقة وأهلها.
هي مكاسب عديدة لأي بلد في استضافة المونديال. هي تغيير للصورة. هي توسيع للإمكانيات. هي استثمار للمستقبل. هي بنى تحتية للجيل القادم. هي خبرات متراكمة ترفع من مستوى الخدمات. هي تحويل بلدٍ من مجرّد مكان لا يوجد فيه سوى «المولات» كأي بلد خليجي، إلى بلد سياحي بامتياز. هذا في المستقبل إذا عرف القيمون كيفية استثمار في ما حدث.
لكن الآن يكفي أي مشجع أو صحافي عربي بات في قلب المونديال ليستمتع ويعيش الحدث. هي فترة يتمنى أي عربي فيها لو أن بلده هو المستضيف للحدث العالمي. ولمَ لا ربما تكون هذه فاتحة خير لتستضيف العديد من الدول العربية المونديال، وما أجملها أن يكون المونديال مستقبلاً في الجزائر ومصر والمغرب العاشقة للكرة، أو في اليمن والسودان وغيرها... ليتمكن الجميع من متابعة الحدث العالمي، ويتعرف إلى حضارة بلدان يحاول الغرب، وبعض أهلها الفاسدين تدميرها.