روسيا وأوكرانيا في حرب مشتعلة، أحوال اقتصادية عالمية متقلبة، الحزن يضرب المملكة المتحدة إثر وفاة الملكة إليزابيث، ويضرب الإمارات لوفاة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، جدري القرود يغزو العالم، وريال مدريد يهزم ليفربول ويتوج للمرة الرابعة عشر في نهائي دوري أبطال أوروبا، جوني ديب ينتصر قضائياً على زوجته السابقة آمبر هيرد، قلب دفاع فريق برشلونة بيكيه ينفصل عن زوجته المغنية شاكيرا... شعوب تتأجج قهراً وتظاهرات تبتلع الشوارع الإيرانية، ووكالة «ناسا» تنشر أول صورة دقيقة وعميقة للفضاء الواسع الذي نشكل نقطة ضئيلة في بحره الواسع.يمكننا الوقوف على الأحداث السابقة لتكون عتبات موجزة لقراءة خريطة أحداث عام 2022. وإذا كانت صورة الفضاء تكشف لنا حجمنا الضئيل أمام الكون، فإن كرة القدم تصنع التأثير ذاته، الكل يحتشد ويشتبك ويتدافع ليراقب هذه الدائرة الصغيرة تتراقص في الهواء، تمرّ بين أقدام اللاعبين، تراوغ، تدفع القلوب للخفقان السريع، للقلق المربك، والصراخ والتهليل باسمها، كرة صغيرة تصنع تأثيراً هائلاً كأثر الفراشة.

أيام قليلة وينطلق مونديال كأس العالم في قطر لعام 2022 ليكون ختاماً لائقاً لهذا العام الحافل بالاشتباكات. دورة جديدة يحتشد فيها العالم لتحدد مصائر جديدة على أرض الملعب الخضراء، ومسرحية جديدة تتشكل خيوطها الدرامية بارتجال ممثلين محترفين يسلمون أجسادهم وأقدامهم للقدر.
في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» يتغزّل الكاتب الأوروغواني إدواردو غاليانو بكرة القدم، يكتب لها تاريخاً بلغة أدبية توثق السيرة الذاتية لتلك اللعبة التي تلتف حولها الجماهير في ترقّب، حيث ساحة الملعب الأخضر تشتبك فيها الكرة مع مجريات الأحداث العالمية باعتبارها جزءاً من نسيج السياسة والاقتصاد وأحوال المجتمعات والشعوب، بل تصل إلى حد اعتبارها ديناً يعبده المشجعون ويتوجس منه المثقفون. يتساءل غاليانو «أهي أفيون الشعوب؟» فيتتبع تاريخ كرة القدم منذ نشأتها كلعبة يعرفها الأغنياء داخل أسوارهم العاجية والفقراء في المناطق الشعبية مروراً بتاريخ المونديالات الذي يتجانس ويتضافر مع تاريخ الدول والشعوب.
ليس من السهل أن نشارك الآخرين مشاعرنا لكن كرة القدم تفعل ذلك، بالخفة ذاتها التي تُركل بها الكرة. فجأة تجد مشاعرك يشاركك فيها الآخرون، هم جزء من نبضات قلبك، من خوفك وترقبك. في المونديال لا ينتمي مشجع كرة القدم إلى لاعب واحد ولا ناديه المفضل، بل يعود من جديد لانتمائه الأول للوطن الذي قد يخذله في الواقع لكنه يدافع عنه بشراسة في الملعب. «نادراً ما يقول المشجع «اليوم سيلعب نادي» إنه يقول عادة «اليوم سنلعب نحن»»، يلحظ غاليانو معيداً بلورة موقع المشجع الكروي في خريطة اللعبة فيصبح كل مشجع هو اللاعب الثاني عشر، طرفاً من لعبة يشارك فيها عن بعد لكنه يشعر بقوة أنه قريب وفاعل بهتافه. حينها لا يصبح الهتاف رفاهية، ولا السفر إلى بلد بعيد منه ليشاهد منتخبه حدثاً عادياً، لكن الانخراط في أجواء اللعب داخل الملعب يرسم للمشجع مكاناً على الخريطة، خريطة الوطن.
داخل الملعب الذي يحوي آلاف المشجعين يتحول الخاص إلى عام، الفرد إلى جماعة، ينخرط في شعور وكيان ينتمي له، فيقول أنا أنتمي لهذا المشهد وهذه اللعبة وتلك الهتافات. لعل الانتماء لشيء أو كيان ما هو كل ما يبحث عنه الإنسان في يومه العادي ويجده ببساطة داخل لعبة يقطع الأميال ليعلن انتماءه لها.
ولأن قراءة المستقبل تتشكل ملامحها من قراءة الماضي، يمكننا قراءة خريطة مونديال 2022 من خلال كتاب غاليانو الذي يرصد تاريخ كرة القدم والمونديالات السابقة. لكن الكاتب لا يقف عند توثيق الأهداف ومعلومات الهزيمة والنصر، بل يمنح كل مونديال روحاً جديدة معيداً سرد الحكايات التي تغذي مشاعر النصر والهزيمة في الكرة باعتبارها مسؤولية كبرى مشتركة لا مسألة حظ.
في حديثه عن مونديالي 1934 و 1938 يقول غاليانو إن «كرة القدم والوطن مرتبطان على الدوام؛ وكثيراً ما يضارب السياسيون والدكتاتوريون بهذه الروابط». في هذين العامين فازت إيطاليا بالمونديال لكنه فوز له حكاية، فوز وضعه موسوليني أمام كفة الموت، وما حدث أن تهديداً صريحاً وصل لللاعبين من زعيمهم؛ لم يكن من خيار آخر أمام المنتخب الإيطالي سوى الفوز بكأس المونديال، وهو ما حدث بالفعل. ولأن موسوليني يعرف أن كرة القدم ليست محض لعبة تنتهي بنهاية وقت المباراة بل حدثاً كبيراً لا يقل أهمية عن انتصاره في الحرب العالمية، كان فوز المنتخب الإيطالي سبيلاً لإثبات قوة سلطته السياسية أمام العالم، وأفيوناً لشعبه الذي ينشد النصر والقوة بكل الطرق. لم يعد الفوز الكروي هنا مسألة فردية بل أصبح خلاصاً جماعياً.
لذلك، ووفق قراءة متعمقة لتاريخ المونديالات السابقة، لا يمكننا فصل النصر الكروي عن النصر السياسي، ثمة مسؤولية فردية تقع على أعتاق اللاعبين يدفع ثمنها شعب بأكمله، كمسؤولية الجنود في الحرب. يقول الفيلسوف جان بول سارتر إن كرة القدم مجاز عن الحياة، وهو ما يمكننا تفسيره في عيون الجماهير التي تراقب مباريات تحمل مجازات وإسقاطات لمعاركهم الشخصية. رغبتهم في فوز منتخبهم هي رغبة في الشعور بنصر شخصي يعزز في القلوب أملاً يبدو ممكناً في مكاسب شخصية أو حتى سياسية.
عندما أحرز مارادونا هدفه الشهير بيده، فسّر ما حدث بأنه تدخّل ليد الله. يضعنا هذا التفسير أمام السياق الذي تقود به كرة القدم مشاعر مشجعيها الذين صدّقوا تفسير مارادونا بأن تدخلاً إلهياً قد يحدث استجابة لصلوات ودعوات شخصية. الأمر ليس مجرد لعبة، بل تحكمه أحياناً قوة إلهية تفرض يدها العليا.
عن الهزيمة والنصر يقول غاليانو «المتعة بالنسبة إلى المشجع المتعصب ليست فـي انتصار فريقه، وإنما فـي هزيمة الآخر» تحمل الجملة السابقة مزجاً من الغيرة والشر. وفي استاد كرة القدم يُسمح لهذه المشاعر بأن تتجول في قلوب المشجعين المتعصبين، كرجل دين متشدد في غيرته على دينه، لكن هذا المشجع العصبي جاء ليحصد نشوة النصر الفردي في الهزيمة الجماعية للفريق الخصم. هكذا يتولّد الشعور الغامر بالنصر الجماعي. لكن ماذا عن المشجع العادي الذي يذهب إلى مباراة منتخبه أملاً في نصر شخصي؟
يصف غاليانو ملعب كرة القدم بـ«المعبد» ويستطرد في وصفه قائلاً «في هذا الحيز تعرض ألوهيتها الديانة الوحيدة التي لا وجود لملحدين بين معتنقيها، ومع أن المشجع يستطيع مشاهدة المعجزة براحة أكبر على شاشة التلفزيون، إلا أنه يفضل أن يحج إلى هذا المكان حيث يمكنه أن يرى ملائكته بلحمهم وعظمهم وهم يتبادلون الركل ضد شياطين هذه النوبة». يعيدنا هذا الوصف إلى مراقبة المشهد العالمي الحالي حيث المونديال على الأبواب، والجماهير من كل دول العالم تستعد للاحتشاد والسفر إلى قطر تشجيعاً لمنتخباتها وممارسة طقوسها الخاصة في التشجيع التي هي أقرب لصلوات لا تحتاج لغة معينة لفهمها وترجمتها. إنها حالة إيمانية جماعية، تنسلخ فيها من أناك لتكون فرداً فاعلاً بهتافاتك بين الجموع.