يزور المدرج الروماني المعروف اليوم بالـ«كوليسيوم» حوالي ستة ملايين زائر في السنة، أي ما يوازي عدد سكان لبنان بمواطنيه ولاجئيه ومستعمريه المقيمين إقامة شبه دائمة في ربوعنا. كما يبلغ هذا العدد ضعفَي سكان قطر بدوحتها وعُدَيْدِها. معظم الوافدين إلى هذا المعلم التاريخي يتأففون من طول الطابور، والبعض يستغلون فترة الانتظار للحديث عمّا كان يجري في قديم الزمان داخل هذا الصرح الذي تقبض بلدية روما ما يقارب المليون ليرة لبنانية سعر تذكرة الدخول إليه. هذا الاستاد المتهالك كان شاهداً على استعراضات، بعضها كانت وحشية بكل ما للكلمة من معنى. قبل ألفَي سنة، كان يحتشد عشرات الآلاف من سكان روما لحضور عروض ترفيهية متنوعة كان ينتهي بعضها بافتراس وحوش حيوانية أو بشرية لضحايا من البشر، وسط تشجيع من الجمهور الحاضر في المدرجات. لكن هذا جرى يوم كان لروما إمبراطورية وأمجاد، أما اليوم فليس لروما فريق في كأس العالم حتّى… وذلك للمونديال الثاني على التوالي.ينطلق يوم الأحد مونديال كرة القدم الذي يقام للمرة الأولى في فصل الخريف احتراماً لطقس البلد المضيف المخيف صيفاً. بعد احتكار أوروبا الغربية ومستعمراتها الأميركية السابقة استضافة هذا الحدث «العالمي» في معظم تاريخه، قررت مافيا الـ«فيفا» التكرّم على القارات الأخرى في الكوكب لتصل إلى أسواق جديدة. بعد كوريا الجنوبية واليابان 2002 اللتين تشكّلان كتلة سكانية من 175 مليون نسمة وجنوب أفريقيا 2010 التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، رسا الخيار بطبيعة الحال على قطر ليكون للعرب مونديالهم. طبعاً، لم يتفاجأ كثيرون، ممّن واكبوا اختطاف رأس المال للّعبة الأكثر شعبية في العالم ودخول البترودولار الخليجي في اللعبة لشراء النفوذ في عواصم القرار الأوروبي في العقدين الأخيرين، لاختيار بئر غاز لاستضافة الحدث الرياضي الأبرز في العالم. هذه هي النتيجة الطبيعية لكرة القدم المعولمة في المراحل المتأخّرة من الرأسمالية، حيث بات المونديال مجرّد سلعة تتحدد قيمتها من خلال عملية التبادل وليس من قيمتها العملانية إذا ما طبّقنا نظرية المنظّر الماركسي ديفيد هارفي لقيمة السلع في نظام التراكم المرن. يشتهر هارفي أيضاً بشرحه لمفهوم تراكم رأس المال والنفوذ بيد قلّة عن طريق الاستحواذ على موارد الكيانات العامة. هنا أمراء قطر يجسّدون هذه النظرية بحذافيرها، وبذلك يكون مونديال قطر 2022 كأس الرأسمالية المتأخرة بامتياز. وإن كان هناك أي وجود للعرب فيه فهو لأموالهم ومواردهم التي تراكمت ثروات خيالية بيد قلّة من نخب رأس المال المعولم. يكثر انتقاد قطر في الغرب هذه الأيام من باب المزايدات في الإنسانية لانتهاكاتها لحقوق الإنسان تارةً ولاستعبادها عمّال البناء الذي قضى منهم المئات طوراً. لكن هذه الانتقادات لا يمكن أخذها على محمل الجد حين تكون قطر هي صنيعتهم ومصدر رزقهم وغازهم، ولا يمكنهم التنكث منها عندما تظهر إحدى صورها البشعة. اعتبروها كوليسيوم روما واهتفوا وشجّعوا وافرحوا باللعبة الجميلة، فدماء القتلى جفّت والاستغلال لن يكون على أرض الملعب على مرأى من آلاف الكاميرات، إذ بتنا في عصر الـ«VAR».
هذه هي النتيجة الطبيعية لكرة القدم المعولمة في المراحل المتأخّرة من الرأسمالية


لو استرجعت الجماهير لعبتها الشعبية مِمَّن استحوذوا عليها، لكان «مونديال العرب» ليقام في مصر أو في الجزائر، الغائبتين عن هذه البطولة، أو في النجد والحجاز واليمن مثلاً. حتماً لم يكن الخيار الشعبي ليكون قطر، فشتّان ما بين استاد القاهرة واستوديو لوسيل. لكن استوديوات «الجزيرة» تريد إقناع جماهير العرب بأن مباريات كأس العالم تلعب في ربوعهم، تماماً كما حاولت إقناعهم يوماً بأن ربيعهم قد حلّ. قطر كشقيقتها الإماراتية اللدودة دبي تجسّدان ما تريده الرأسمالية المعولمة لشعوب المنطقة، لنسمّها العَوْرَبة. تراكم بيد قلّة يسرقون الأضواء، بعد نهب الموارد، ليمتثل الباقون بهم، أي سيناريو هوليوود. لكن في النهاية، مهما سطعت الأضواء ومهما ارتفعت كلفة الاستوديوات والممثلين، وهي بحالة مونديال قطر حقّاً مكلفة، يبقى كل ذلك تمثيلاً للترفيه والإلهاء، وتبقى الحقيقة في مكان آخر.
وتبقى كرة القدم اللعبة الجميلة، وسوف نشاهد المباريات، حتى لو أقيمت في روما عصرنا، والتي يصادف أنها تستضيف النسخة القادمة من كأس العالم، بعد 3 سنوات ونصف سنة من الآن، إلى جانب كندا والمكسيك.