عشيّة انطلاق المونديال، تبدو الدوحة مستعدة للحدث الجلل، الكاميرات في مكانها، وكل جنسية تعرف وظيفتها جيداً، والأمن مستتب، هذا بالإضافة إلى شراء اللاعبين المواطنين للمنتخب الوطني، البيئة المبنية بأبهى حللها، مع قليل من القوانين الجديدة والمؤسسات المستحدثة ورشّة من الإعلام المحلي الناقد، ولا ينقص المدينة إلا قبّة زجاجية ليشعر الزائرون بأنهم يشاركون بنسخة محدثة من فيلم «The truman show». ليكتمل المشهد، كان من الضروري إخفاء طاقم العمل وظروفه البائسة. غنيّ عن الذكر أن العمّال يسكنون في مبانٍ معزولة تخضع للحراسة، أقرب إلى السجون، على مقربة من المدرجات، ولكن مع اقتراب المونديال، بدأت السلطات بإخلاء مجمّعات سكنية كاملة من آلاف العمّال بإخطارات إخلاء وصل بعضها إلى ساعتين فقط، حفاظاً على مشاعر المشجعين!ما يميّز مونديال قطر لوجستياً عن غيره، ليس مجرّد كونه أوّل مونديال في دولة عربية، ولا كونه أوّل مونديال شتوي للوقاية من قيظ الصيف الخليجي، أو لأن مدرجاته ستكون الأولى من نوعها لناحية التكييف، الأهم من ذلك أن بلداً بأكمله تم إنشاؤه لاستضافة هذا الحدث الذي سيمتد لشهر بأكمله!
(نهاد علم الدين)

قبل حوالي العقد، نالت قطر «شرف» استضافة كأس العالم 2022، في ظل ضجة كبيرة من المرحّبين والمشكّكين بأهليّة الإمارة لهذا الاستحقاق واتهامات بنيلها المونديال عن طريق الرشى لمنظمة «الفيفا» الشهيرة بفسادها. وجدت قطر نفسها أمام تحدٍّ مهول بالنسبة إلى سنواتٍ عشر، فقد عملت لبناء عدة مدرجات بمواصفات عالمية ومرافقها، وتأمين البنية التحتية الهائلة التي تضمّنت إنشاء شبكة مترو لتأمين المواصلات للمشجعين. اللافت أن إجمالي التكلفة، أي المليارات الـ 220 (تعادل الدخل القومي لقطر في عام واحد)، تبدو غير كافية لدفع رواتب العمّال واستحقاقاتهم. هؤلاء العمّال لا يقبضون الآلاف المؤلفة مثل الوافدين البيض أو مثقفي بلاط الأمير. فأغلب الرواتب لا تتعدى مئات قليلة من الدولارات. يشعر القطريون، أثرى أثرياء العالم، بأن هذه المبالغ الزهيدة ثقيلة على جيوبهم وقلوبهم، ولا يبخلون على العمّال بأجرهم وحده، بل بإجبارهم على العمل في ظروف قاسية أوصلت التكلفة البشرية للمونديال إلى 6500 عامل وافد (بحسب صحيفة «الغارديان») قضوا حتفهم بالأعمال الشاقة.

أن تبني بلداً على عجل
بعدد سكان ضئيل جداً، وثروات طائلة، وحياة وثقافة استهلاكية، لا يمكن تخيّل أيّ دولة خليجية تعمل بلا عمالة وافدة ضخمة. في قطر، انفجر هذا التضخم لتلبية متطلبات المونديال الباذخ، حيث وصلت نسبة الوافدين إلى 85%، الأمر الذي يجعل التركيبة السكانية شبيهة بتلك التي نسمع عنها في المستعمرات الأوروبية مثل هايتي حين كان السكر هو نفط العصر، ومقابل كل مستعمر أبيض 4-5 عبيد مستوردين يسيّرون أمور الحياة كافة، من الإنتاج إلى الإدارة إلى خدمة المنزل وما إلى ذلك من العمل... حتى الموت، وحيث لون البشرة والجنسية يحدّدان مكانتك البشرية وفرص عملك. كل دول الخليج تستعبد الوافدين غير البيض، وإن بدرجات مختلفة، وقصص موت العمّال بالتعذيب أو بالأعمال الشاقة شائعة أينما ولّيت وجهك. ليس العمّال الأفارقة والآسيويون الوحيدين الذين يحرمون من دخلهم، فحتى المتقاعدون العسكريون الأردنيون الذين سخّروا خبراتهم في خدمة حفظ الأمن كانوا قد خاضوا صراعاً مع مشغّليهم لتحصيل رواتبهم على مرمى أسابيع من بدء الحدث الجلل. جدير بالذكر أن هناك تكاليف تدفع لشركات التوظيف مسبقاً تصل إلى آلاف الدولارات، وبالنسبة إلى عائلات تعيش في فقر مدقع، فإن هذا المال يصبح ديناً على العائلة، وفي حالات أسوأ تباع الأرض أو أدوات الإنتاج لتأمين حصة شركات التوظيف، وهكذا تخسر عائلات كثيرة معيلها وأدوات عمله وتتراكم عليهم الديون، وإن نجا من الموت فهناك احتمال كبير بأن يعود بمرض مزمن ومكلف كعارض جانبي للعمل المضني في طقس مجمر (يصل إلى 50 درجة مئوية، بينما تطلب «الفيفا» إجراءات خاصة للعب في درجات أعلى من معيار 32 درجة مئوية) لساعات طويلة بلا راحة ولا حتى مياه.
مع اقتراب المونديال، بدأت السلطات بإخلاء مجمّعات سكنية كاملة من آلاف العمّال بإخطارات إخلاء وصل بعضها إلى ساعتين فقط


نظام الكفالة، الذي يشكّل وجهاً قانونياً معاصراً للعبودية في كثير من الدول العربية، هو ما يمنع عمّالاً كثيرين من الهرب والنجاة بحياتهم بعد أن يكتشفوا أنهم وقعوا في فخّ مميت، إذ يصبح العامل، عملياً، ملكية للكفيل، يسحب جواز سفره فور تسلّمه، ويمنعه من السفر، أو حتى تغيير عمله. وبسبب الحملات الدولية، على نفاقها، ضد استغلال العمّال في قطر، تقول الأخيرة إنها ألغت نظام الكفالة من ضمن تعديلات قانونية ومؤسسية كبرى غيرها أجرتها في محاولة للحفاظ على سمعة «مونديال قطر». مع ذلك، يؤكد عدد من العمّال أن الواقع عملياً لم يتغيّر، وأن القوانين الجديدة شكلية هي والمحاكم التي خلقت للدفاع عن حقوق العمّال، حتى إن هناك حالات لحبس العمّال المشتكين ومعاقبتهم.

«أشياء لا تشترى»
يبدو أن الأحداث العالمية سلبت الأضواء من المونديال، وجلبت عليه وبال النفاق الغربي حول الحريات والحقوق. وبدل أن تتألّق قطر فخراً وزهواً، أصبحت تشوى بجحيم انتقادات المجتمع الدولي، وباتت تتذوّق السمّ الذي كانت تبثّه بقوّتها الناعمة. نفاق المجتمع الدولي هنا بلا حدود، فنموذج الاستغلال البشري المبني على العرق في أنظمة الخليج ليس إلا نسخة معدلة من نموذج الاستعمار التقليدي. عوضاً عن أن يقوم الرجل الأبيض باستيراد العبيد (أو استعباد أهل البلاد) لاستخراج الثروات وتصديرها إلى «المتروبول»، في عالم ما بعد الاستعمار، ودول ذات ثروات باطنية هائلة وكثافة سكانية ضئيلة، طرأ تعديل صغير على هذا النموذج، بعقد صفقة مع المشيخات المحلية التي تسيّر منظومة النهب نفسها واستيراد البشر وتسخيرهم، بينما يقطف الغرب فائض القيمة بأيدٍ نظيفة وناصعة. فائضٌ إن قطع عن الدول الغربية فقدت رفاهها، وستفقد أساسيات العيش فيها.
تتضمّن الصفقة طبعاً تبعية سياسية توظّف فيها هذه الكيانات ضد محيطها خدمة للمستعمر وتصبح وكيل حروبه بشقّيها العسكري والنفسي. ورثت هذه الدول منظومة الدول الغربية، ولهذا السبب فكرة حكامهم عن المجد هي الإفراط في العمران الباذخ المفرغ من القيم الاجتماعية والوظيفية. يستميتون لتخليد أسمائهم بمدن من زجاج. مدن لا يمكن أن تستمر بلا ثروات متدفقة تؤمّن كلفة العيش في بيئة صناعية تحمي من المناخ القائظ، ويعتقدون بذلك أنهم بإمكانهم شراء المجد باستيراد كل شيء: التقنية، البناء، الغذاء، وعاظ السلاطين، شعراء البلاط، وأرواح العمّال الوافدين. ولئن كان العزّ والكرامة والمجد تبذل لأجلها الأرواح، إلا أنها بالتأكيد ليست الأرواح المستوردة، ولا تبذل على مذبح رؤى أميرية، والأهم أنها على عكس ما يظنّون: هي «أشياء لا تشترى».