قصص كثيرة تُحكى عن كرة القدم، ولكن إذا كان هناك شيء واحد سيتعلمه المرء بسرعة كبيرة، فهو أن الحواس تلعب دوراً مهماً في التعرف على اللاعب الجيد، كما النبيذ الجيد. إضافة إلى البصر والسمع، من النادر أن يجد شخص ما، لاعباً لكرة القدم يجعله (أي هذا الشخص) قادراً على تحديد جودته باستخدام «حواس الأرض»، الروح والإدراك والشعور. ففي كل العالم، لا شيء يغري الحواس أكثر من الامتيازات. اجتماعية كانت أو فنية أم رياضية. أو أن يكون بطلاً قومياً في بلاده.البطل هنا هو النجم الكرواتي لوكا مودريتش، بدايته المتواضعة كانت في منزل أضحى بقايا متفتّتة بعدما التهمت النيران جزءاً كبيراً منه، في قرية «مودريتشي» التي تقع على سفح جبال فيليبيت المطلة على البحر الأدرياتيكي والتي دُمرت خلال حرب الاستقلال. غادر لوكا مودريتش «الجدّ» الحياة مقتولاً على يد القوات الصربية في الأشهر الأولى لحرب الاستقلال الكرواتية (1991-1995) الذي حصدت قرابة 20 ألف قتيل. لا تزال لوحة تذكّر بذلك في تلك المنطقة وتقول «خطر ألغام»، ليتولى لوكا مودريتش «الحفيد» مسؤولية العائلة ورفع اسمها في العالم.
كان لوكا مودريتش في العاشرة من عمره عندما هرب مع عائلته إلى مدينة زادار الساحلية التي تقع على بعد 40 كيلومتراً. هنا، وسط أزيز القنابل التي تتساقط على المدينة الساحلية، تفتحت خصال إحدى أبرز المواهب المعاصرة في القارة الأوروبية، والذي أصبح قائداً لمنتخب كرواتيا.
لوكا اليوم يبلغ من العمر 37 عاماً، يتحدى العمر ويهزم «تجاعيد الزمن» ويُحلّق بعيداً إلى حيث يصعب الوصول إليه، فهو يستعد لقيادة منتخب كرواتيا في نهائيات كأس العالم مرة أخرى. لكن يبدو أن نسخة كأس العالم هذه في قطر تستعد لبعض الوداعات العاطفية على الساحة الدولية. وربما لا يعني الوداع (دوفيدنجا في اللغة الكرواتية) أكثر من لوكا مودريتش.

معانقة اللقب العالمي
على الرغم من عدم وجود أي عذر فني لاعتزال هذا النجم العالمي قبل نهائيات كأس العالم 2026، فقد توقّع مودريتش بالفعل أن تكون نسخة 2022 آخر بطولة دولية كبرى له مع منتخب كرواتيا.
فقد رسخ نجم ريال مدريد «الجيل الذهبي الثاني» لبلاده واختير أفضل لاعب في المونديال العالمي قبل أربع سنوات في روسيا. كما قاد كرواتيا بشكل ملفت إلى نهائي كأس العالم عام 2018 (خسر أمام فرنسا) وقاده أداءه للفوز بالكرة الذهبية. فلاعب خط وسط توتنهام السابق هو اللاعب الأكثر مشاركة مع منتخب كرواتيا ويظل أحد أفضل اللاعبين في العالم في مركزه.
ومع ذلك، على عكس معظم لاعبي خط الوسط المخضرمين الذين يطمحون للحصول على مركز مضيء في كأس العالم هذه المرة، يواصل مودريتش العمل على أعلى مستوى لتطبيق عبارة غالباً ما يتم استخدامها بشكل كبير، «نجم ريال مدريد» تقدّم في السن وبات مثل «النبيذ الجيّد».
ومع أن «لوس بلانكوس» جنّد نجوماً صغاراً في محاولة للبناء من أجل المستقبل، مثل فيديريكو فالفيردي وأوريلين تشواميني وإدواردو كامافينجا، إلا أن الكرواتي ظلّ يمثل الدعامة الأساسية في معسكر كارلو أنشيلوتي. ومع تقدم المنتخب الكرواتي في السن، والذي يضم لاعبين أمثال دوماغوي فيدا البالغ من العمر 33 عاماً، وإيفان بيريسيتش وديان لوفرين، فقد ساهم مودريتش في قيادة منتخب بلاده إلى صدارة المجموعة A1 في دوري الأمم الأوروبية، متقدماً على الدنمارك المتأهلة وفرنسا والنمسا.

تعويذة خط الوسط
مع استمرار نجاح «تعويذة» خط الوسط الكرواتية وخاصة في الأداء على أعلى مستوى، لا يرى منتخب «فاتريني» أي حاجة للضغط على زر إعادة الضبط والتشغيل، وفضّل أن يعتمد لاعبَين ذوي خبرة في قطر للبناء على نجاح 2018.
مع مواجهة كندا وبلجيكا والمغرب في نهائيات كأس العالم، وبحسب التحليلات الرياضية سيحظى فريق المدرب زلاتكو داليتش بفرصة التأهل إلى الأدوار الإقصائية، والذي يأتي في المرتبة التالية خلف بلجيكا المرشحة لصدارة المجموعة. وفي حين أنهم قد يواجهون صعوبة في الاحتفاظ بالكرة لفترات طويلة ضد منتخب المدرب روبرتو مارتينيز، فإن خط وسط مودريتش سيهيمن بلا شك على حيازة الكرة ضد كل من كندا والمغرب، اللذان يفترض أنهما سيستعدان للهجوم المضاد.
وبوجود ماتيو كوفاسيتش ومارسيلو بروزوفيتش ومودريتش في غرفة التحكم الكرواتية، سيكون من المنطقي ترشيح «الحارقون» للوصول إلى أدوار متقدمة في البطولة. وتلعب كرواتيا مباراتها الأولى بمواجهة المغرب يوم الأربعاء في 23 تشرين الثاني الجاري.

مودريتش لكرة القدم وما بعدها
«لوكا مودريتش لم يوقّع على تجديد العقد بعد، لكنه عملياً لديه عقد مدى الحياة مع ريال مدريد». كانت هذه الكلمات التي قالها أنشيلوتي الموسم الماضي قبل تمديد عقد لاعب خط الوسط الصيف الماضي، وهو ما يدلل على الأهمية التي يحظى اللاعب في فريق «لوس بلانكوس». تضم خزانة ألقاب مودريتش في ريال مدريد أربع بطولات دوري أبطال أوروبا، وأربع بطولات لكأس العالم للأندية، وثلاث كؤوس سوبر أوروبية، وكأس «لا ليغا» مرتين، وكأس سوبر إسباني ثلاث مرات، وكأس ملك إسبانيا مرة واحدة.
على الرغم من أن الإبداع هو أقوى ما لديه وما يملك، فقد أثبت مودريتش أنه أحد لاعبي خط الوسط الأكثر خبرة في كرة القدم العالمية طوال مسيرته، مع دهائه في لعب كل المراكز من الهجوم والدفاع اضافة الى الأناقة بلمسه الكرة وبراعته في القيادة في منتصف الملعب، كما أنه قادر على امتصاص الضغط وتوفير مساحة أكبر للأجنحة والمهاجمين.
تلعب كرواتيا مباراتها الأولى بمواجهة المغرب يوم الأربعاء في 23 تشرين الثاني


لكن قبل كل شيء، وربما الأكثر إثارة للإعجاب، هو أن مودريتش يمنح ريال مدريد وكرواتيا طاقتهما الخاصة وقد يكون أفضل لاعب مؤثر في تغيير النتيجة وتقدّمها.
بشكل عام، يتراجع معدل قوة اللاعب مع تقدم العمر، ومع ذلك، يستمر مودريتش في هزيمة اللاعبين الأصغر سناً بالكرة. لعب لمدة 90 دقيقة مع كرواتيا في معظم المباريات. وواصل مطاردة الخصوم من صفارة البداية حتى النهاية في المواجهات الحاسمة مثل الكلاسيكو أو ديربي مدريد أو حتى في رحلته للوصول إلى نهائي كأس العالم 2018.
بالتأكيد، لا بد أننا سنستمتع بكل دقيقة لعب من ميسي وكريستيانو في هذا المونديال التي قد تكون الأخيرة للثنائي. لكن لا يمكننا إلا أن نستمتع بكل ثانية من الفتى الأشقر مودريتش قبل اعتزاله الوشيك.