يطلق المذيع عبر احدى الاذاعات اللبنانية تحذيره على الهواء مباشرة «يا شباب، الرجاء عدم الاقتتال والابتعاد عن المناوشات». يشدد على ضرورة عدم الانجرار خلف الاستفزازات، او الخروج بمسيرات. ويختم بأنها ستكون «ولعانة» على محور مقهيين، أحدهما في العاصمة بيروت، وآخر خارجها. للوهلة الاولى يخيّل للمرء بأنه يسمع «مكتب التحرير في خبر جديد»، عبر «صوت لبنان»، حيث كان الترقب الدائم لمعرفة المواقع المشتعلة على محاور الاقتتال وخطوط التماس، ايام الحرب المشؤومة.

وللوهلة الأولى، يخيّل ايضاً أن التوتر عاد الى طرابلس، وعاد تساقط القنص والقذائف من العيارات المختلفة...
كل هذه العبارات لا دخل لها بكل ما ذُكر أعلاه، بل إن الكلام كلّه كان عن مباراة البرازيل والمانيا التي تقام مساء اليوم!
فعلاً، تعكس هذه التحذيرات التي تتردد الى المسامع عبر وسائل اعلام مختلفة ما يمكن ان يلمسه اي شخص يتواصل عن كثب مع الرأي العام. الحقيقة ان الشارع اللبناني يعيش غلياناً بمؤشر يرتفع يومياً على هذا الصعيد، اذ يترك البعض انطباعاً كأن مصير البلاد يتوقف عند نتيجة فوز منتخبهم المفضل، الذي قد لا يتذكرونه الا في المونديال المقبل عام 2018.
صحيح ان البرازيل والمانيا هما الحصانان الاقوى في السباق الى لقب المونديال، وأن مواجهتهما معركة كروية ممتدة بين مشجعيهما اللبنانيين منذ اعوامٍ طويلة، تفوق أطول الحروب التي عاشها العرب في الجاهلية، امثال حرب داحس والغبراء التي دامت 40 عاماً، لكن لا يمكن بمكان تصوير منتخب البرازيل على انه داحس (حصان لقيس بن زهير العبسي)، او ان منتخب المانيا هو الغبراء (حصان خصمه حذيفة بن بدر الذبياني)، او اخذ المونديال كلّه الى «الجاهلية» عبر اعتبار الكولومبي خوان زونيغا ذاك الفارس المدعو الليث الرهيص، الذي اطلق سهماً ساماً في تلك الحرب ليصرع عنترة بن شداد، المتمثل عند البرازيليين بنجمهم المصاب نيمار.
هي ليلة للتمتع بلعبة كرة، ليلة لا تتكرر يومياً، ليلة انتظرناها 12 عاماً، وتحديداً منذ النهائي الشهير بين «السيليساو» و«المانشافت» عام 2002.
هي بالتأكيد ليست ليلة للشماتة بالطرف الخاسر، لسببٍ بسيط، وهو انه يفترض بمناصر احد المنتخبين احترام التاريخ المجيد للطرف الآخر. تاريخ يفوق بالتأكيد حاضر المنتخبين ومشجعيهما الحاليين.
ما تعنيه موقعة البرازيل والمانيا بالنسبة الى عالم الكرة، وخصوصاً الى اولئك الذين لا يؤيدون اياً من المنتخبين، يختلف تماماً عمّا يراه بعض اللبنانيين فيها. بالنسبة الى العالم البعيد من عالمنا، عندما تلعب البرازيل والمانيا، الكل يتفرج. هما الاعظم من دون شك على مدار التاريخ المونديالي، ولو ان هذه العبارة قد لا تعجب كثيرين من مشجعي المنتخبات الاخرى، وخصوصاً اولئك الذين يحسبون الالقاب دون سواها.
عندما تلعب البرازيل والمانيا، يلتقي التاريخ مع الحاضر، تلتحم مجرتان، ويتعلّم الكل من مدرستين مختلفتين في كثير من النواحي الفنية، لكن لا في الفلسفة. فلسفة الفوز والانتصارات والانجازات التي لا أحد يمكنه ان يتشبّه بها.
موقعة البرازيل والمانيا لا يعرف قيمتها سوى المنغمسين فيها، هذا ما شعر به رونالدو يوماً، وهذا ما انتظره الالمانيان باستيان شفاينشتايغر ولوكاس بودولسكي، اللذان شجعا «السيليسلو» امام كولومبيا لمقابلته لاحقاً من باب عيش تجربة استثنائية بكل ما للكلمة من معنى.
انسوا «إل كلاسيكو»، انسوا نهائي دوري الابطال، وانسوا كل المباريات التي شاهدتموها طوال حياتكم.
انسوا «داحس والغبرا»، واستمتعوا بحلم مدته 90 دقيقة.