يقف عددٌ من اللاعبين الصغار في نصف ملعبٍ، حيث تُدرّب إحدى الأكاديميات البيروتية الخاصة فرقها. نُلاحِظ أمراً مشتركاً وهو أن أكثر من لاعبٍ يرتدون قمصان الأكاديمية التي تحمل الرقم 10، ومجموعة أخرى لا بأس بها يرتدي لاعبوها أيضاً رقماً مشتركاً وهو الرقم 7، والفارق الوحيد هو اسم اللاعب الموجود في أعلى الظهر.طبعاً تلبي بعض الأكاديميات ما يطلبه «زبائنها»، ولا تكترث حتى لتوجيه هذا اللاعب أو ذاك حول وزنه الزائد أو حول حاجته إلى حصصٍ خاصة لمعالجة نقاط ضعفه. المهم بالنسبة إليها هو المبلغ الذي يدفعه الأهل في نهاية كل شهر.
لكنّ الأهالي أنفسهم يكترثون بغالبيتهم لتطوّر أبنائهم والتقائهم مع مستوى التحدي على أرض الملعب، فيسألون مدربيهم عن هذا الأمر، ويجادلون حول الوقت الذي قضاه كل ولد في الميدان خلال المباراة، ويطلبون معرفة الخطوة المقبلة للأكاديمية في مجال المشاركات الرسمية التنافسية المحلية والخارجية.
اللاعبون الصغار في مكانٍ آخر، إذ تسألهم لماذا اختار أكثر من واحدٍ منهم الرقم 10، فيجيبون بكلمتين: ليونيل ميسي. والأمر عينه بالنسبة إلى الرقم 7 حيث كلمة السرّ هي كريستيانو رونالدو.
من هنا يأتي الجواب حول السؤال الثاني ومفاده: ما هو الهدف من تدرّبك هنا؟ الجواب المشترك هو «أحلم بالاحتراف في أوروبا».
طبعاً هو حلم كل لاعب في كل قارةٍ وبلدٍ ومنتخبٍ ونادٍ، لكنه حلم بعيد المنال بالنسبة إلى صغارنا في هذا العصر حيث يبدو من الصعب إنتاج لاعبين قادرين على بلوغ العالمية والسير على خطى رضا عنتر ويوسف محمد اللذين كانا الوحيدين ممن عرفوا معنى الاحتراف بعدما ذاع صيتهما في ألمانيا.

مصنع بلا أدوات
أما أسباب عدم القدرة على صناعة لاعبين بمواصفات عالمية فهي مختلفة، وتبدأ من المصنع نفسه، إذ رغم أن منتخبَي الشباب والناشئين برزا أخيراً على الساحة الخارجية وقدّما مواهب لافتة جداً، فإن هذه المواهب تحتاج إلى عملٍ كبير لتطويرها وصقلها، وتحتاج إلى ظروفٍ معيّنة محيطة بها من أجل أن تتمكن من ارتقاء سُلّم المتطلبات التي تخوّل اللاعب الاحتراف في أوروبا.
المهم بالنسبة إلى معظم الأكاديميات هو المبلغ الذي يدفعه الأهل في نهاية كل شهر


قد يبدو غريباً القول، وفي ظل زحمة الأكاديميات الكروية، أن التنشئة سابقاً كانت أفضل في أماكن عدة، إذ وُلد نظام «غراسروتس» عفوي عند الأندية، أنتج لاحقاً لاعبين جيّدين، منهم من استطاع الانتقال للعب في الخارج ومنهم من جعل نفسه اسماً تاريخياً في البطولات المحلية.
وقتذاك لم يكن مدربو الفئات العمرية بنفس ثقافة المدربين الحاليين الذين نشطوا في الدورات ليصبحوا من حاملي الشهادات، لكن على الأقل كانت أدوات النجاح موجودة أو بعضها من الأدوات الأساسية وعلى رأسها البنى التحتية التي تساعد اللاعب على التطور من خلال اللعب مثلاً على أرضية عشبية وصالحة تعطيه القدرة لاحقاً على اللعب في الخارج بشكلٍ مريح، وهي مسألة يفتقد إليها كل لاعبي كرة القدم في لبنان حالياً بغضّ النظر عن بعض الاستثناءات، حيث الملاعب الخضراء الطبيعية مثل تلك الموجودة في طرابلس.

خطة مشتركة مطلوبة
مشكلة الفترة الماضية كانت إدارية بحتة، إذ بدا أن هناك سوء استخدام للمواهب بطريقة صحيحة، فوجد البعض صعوبةً للحصول على فرصة اللعب بشكلٍ دوري في سنٍّ صغيرة أو لم يحصل عليها أبداً، وذلك تحت ذريعة مشتركة وردت على لسان الكثير من الإداريين تجاه لاعبين بلغوا الثامنة عشرة أو أكثر، حيث اعتبروهم غالباً صغاراً ولم يحن وقت إشراكهم في المباريات.
هذه المشكلة ربما كانت الأكثر وضوحاً في فترة التسعينيات وامتداداً إلى الألفية الجديدة، لكنّ مشكلة البنى التحتية التي تفتقد إليها اللعبة لتنشيط إنتاجيتها تضاف إليها مشكلة أخرى في عصرنا هذا، وهي البنية الجسدية التي يملكها اللاعب الناشئ الذي يبدو أحياناً وكأنه أصغر من سنّه بعكس منتخباتٍ آسيوية كثيرة يعتقد البعض أنها قامت بتزوير أعمار لاعبيها بسبب فوارق الأحجام بينهم وبين اللاعبين اللبنانيين.
وفي هذه النقطة لا بدّ من العودة إلى أحد الأسباب الرئيسية لنجاح عنتر و«دودو» في ألمانيا حيث المتطلبات البدنية الكبيرة، فهما كما اللاعبين المصريين والتونسيين الذين برزوا في «البوندسليغا» استفادوا من لياقتهم الاستثنائية وقوتهم الجسمانية لمجاراة الألمان الذين تميّزوا تاريخياً على هذا الصعيد.
من هنا لا بدّ من خطةٍ مشتركة بين الاتحاد والأندية والأكاديميات تهدف إلى تعزيز صناعة اللاعب، أولاً من خلال توفير ما يلزم من خبراتٍ أجنبية وزرعها في قطاعات الناشئين، ودائماً عبر استقدام أجهزةٍ فنيةٍ كاملة، لكلٍّ من أعضائها وظيفة لبناء شيءٍ معيّن في اللاعب بهدف تقديمه كمنتجٍ مثالي. هذه الفكرة كانت حاضرة في الماضي البعيد ثم اختفت بعد الشروع في بدء تنفيذها، وذلك عندما استقدم الاتحاد اللبناني للعبة المدرب الهولندي برام إبراهام ومساعديه، حيث تولّوا تدريب المنتخب الأولمبي ووضعوا أطراً للإشراف على منتخب الشباب، فكان أن قدّم المنتخبان أسماءً لا تُنسى في ملاعبنا وبعضها لا يزال ناشطاً على أعلى مستوى حتى يومنا هذا.