مما لا شك فيه أن تأهل منتخب لبنان للناشئين إلى مونديال كرة السلة هو إنجاز كبير جداً، يوازي إلى حدٍّ بعيد كل تأهل لمنتخب الرجال إلى كأس العالم، وذلك بسبب حجز أولئك الشبان البطاقة المونديالية في أسوأ ظروفٍ معيشية تتخبط فيها البلاد منذ إعلان استقلالها.فرحةٌ خلفها عرّابون كثر، من مدارس وأكاديميات وأندية وأجهزةٍ فنية واتحاد وأهالي. كلّهم لعبوا دوراً في مكانٍ ما في عودة اسم لبنان إلى الساحة العالمية بشكلٍ مستحق، وأعادوا معهم الأمل بعودة منتخب الرجال مستقبلاً إلى الحدث العالمي الكبير من خلال البذور التي زُرعت اليوم ويمكن أن تثمر ذهباً في المستقبل.
من هنا، لا يفترض الانتقاص أبداً مما تحقّق ومن العمل الذي أفضى إلى الإنجاز الكبير، لكن تقاطعاً غير صائب وبعيد كل البعد عن مفاهيم الأصول الرياضية برز فور احتفال اللبنانيين بشبانهم المميزين.
هذا التقاطع كان عنوانه «مقارنة بين اتحادٍ ناجح وآخر فاشل»، وبين لعبةٍ متألقة وأخرى مخيّبة، وبدا أنه يهدف في زوايا كثيرة إلى استغلال المناسبة لتصفية الحسابات ولتوجيه الانتقادات.
طبعاً كرة السلة متألقة، لكن هناك رياضات أخرى تفرز أخباراً إيجابية بشكلٍ دوري، منها الفردية ومنها الجماعية. هذه الرياضات لديها إيجابياتها ولها سلبياتها أيضاً تماماً كما هي حال كرة السلة وكرة القدم اللتين تُلقى الأضواء عليهما غالباً لأنهما الأكثر شعبية، ولأنهما الوحيدتين اللتين تشغلان الإعلام وتنقل بطولاتهما عبر شاشة التلفزة.
إذاً لا أحد كاملاً أو مثالياً عندما يرتبط الأمر باستعراضٍ عام لواقع أي لعبة، لكن أن تذهب المقارنة إلى رفع كرة السلة التي تستحق طبعاً كل الإشادة، وإسقاط كرة القدم إلى الحضيض انطلاقاً من مقارنةٍ ترتبط بمناسبة وبطولة واحدة، فهي مسألة ساقطة منطقياً لأسبابٍ كثيرة.

الملاعب مساحة منتجة
أول هذه الأسباب هي الهيكلية التي بُنيت عليها اللعبة انطلاقاً من عملية بناء اللاعب، وما يتوفّر من جوانب لوجستية وبنى تحتية يمكن أن تسرّع من تطوّر المواهب التي تصبح منتجة للنتائج الإيجابية.
هنا بين كرة السلة وكرة القدم الفارق كبير جداً. نحكي أوّلاً عن لعبةٍ لا تملك أنديتها ملاعب عشبٍ طبيعي، ولا يملك اتحادها سلطةً على ملاعب الدولة، بل إن دوره في هذا الإطار لا يمكن أن يتخطى قانونياً مسألة جلب المساعدات إلى الأندية لتعشيب ملاعبها بالعشب الاصطناعي من خلال برامج دعم «الفيفا». كل هذا يؤثر على تطوّر اللاعبين غير القادرين على بلوغ النضج المطلوب على ملاعب اصطناعية قبل أن ينتقلوا إلى خوض المنافسات على المعشّب الطبيعي.
أضف أن أنديةً كثيرة ومنها قسمٌ كبير من أندية الدرجة الأولى لم تكن تملك حتى الأمس القريب ملاعب خاصة بها، وبعضها لا يزال يعاني من هذه الحالة، فيظل مشتتاً وباحثاً عن ملعبٍ يستأجره لفريقه الأول أو لتأمين بعض الحصص التدريبية المتقطعة للاعبين الناشئين. كما أن الافتقاد إلى ملاعب يمكن استثمارها من قبل غالبية الأندية أثّر على مردودها المالي الذي يمكنها استخدامه مثلاً في تطوير قطاعات الناشئين.
أي مقارنة بين كرة السلة وكرة القدم هي مسألة بعيدة عن مفاهيم الأصول الرياضية


أما في كرة السلة فالوضع مختلف تماماً، إذ إن أندية في الدرجات الدنيا وحتى أكاديميات تملك ملاعبها الخاصة التي تستخدمها على نطاقٍ واسع وتقوم بتأجيرها، وتفتحها لمختلف النشاطات السلّوية، الأمر الذي خلق مساحةً كبيرة للاعبين الصغار للالتزام باللعبة بشكلٍ أكبر بسبب سهولة الولوج إليها من خلال كثرة الملاعب التي لا تجد البلديات عناءً كبيراً لتشييدها وصيانتها، تماماً بعكس كرة القدم التي تحتاج إلى أموالٍ طائلة لبناء الاستادات وصيانة عشبها دورياً، وهي مسألة تفوق ميزانية الاتحاد والأندية، وسط تجاهلٍ رسمي منذ زمنٍ بعيد لهذه المعضلة التي تركت العاصمة بيروت من دون ملعبٍ يمكن استخدامه، وتالياً لبنان ككل من دون ملعب عشبٍ طبيعي لإقامة المباريات.

أهمية البيئة الحاضنة
أما ثاني الأسباب فهو يرتبط بالأول ويخصّ شكل كل لعبة عند القاعدة، فكُرَة السلة تتمتع بأفضليةٍ كبيرة على هذا الصعيد، وذلك انطلاقاً من أنها لعبة متأصلة في المدارس والجامعات التي تملك غالبيتها الساحقة ملعباً لممارستها، ما يخلق أيضاً مساحةً أخرى للاعب للمواظبة على تطوير موهبته. أما في كرة القدم فإنه يصعب إيجاد مدرسةٍ لديها ملعب كبير أخضر مقابل ملاعب لا تتخطى أصابع اليد الواحدة على صعيد الجامعات. ولهذا السبب بدا واضحاً أن لبنان يحقق نتائج أفضل في كرة القدم للصالات منه في كرة القدم، وذلك بسبب تشابه واقعها المدرسي والجامعي بتلك الخاصة بكرة السلة. هذا من دون أن نغفل أنّ كرة القدم هي «لعبة الشوارع والأحياء»، وما إن يخرج اللاعب الموهوب منها فهو بحاجةٍ إلى مساحةٍ في المدرسة أو في النادي تؤمّن الحدّ الأدنى من معايير التطوّر اليومي لموهبته من خلال ممارسة التمارين والمباريات، لتطلّ مسألة فقدان البنى التحتية التي لم تترك أي صداع عند اتحادات كرة السلة المتعاقبة بعكس اتحاد كرة القدم الذي عانى منها منذ زمنٍ ولا يزال.

معايير فنيّة مختلفة
وبالحديث عن كرة السلة وكرة الصالات ونجاحاتهما، فإن شكل اللعبتين يسمح بإصابة النجاح أكثر من كرة القدم، وهو أمرٌ ثبُت في بلدانٍ عدة على غرار الصين التي استطاعت أن تبرز عبر منتخبها في المستديرة البرتقالية آسيوياً وعالمياً، لكن في اللعبة الشعبية الأولى بدت بائسة، إذ كان أسهل بالنسبة إليها إيجاد لاعبين جيّدين في كرة السلة بمعنى أن خمسة لاعبين مميّزين قد يصنعون الفارق في هذه اللعبة، بينما الضعف أو اكثر يحتاجه أي فريق لتحقيق نتائج طيّبة في كرة القدم. كما يمكن إيجاد أكثر من مثل مشابه في أوروبا، وذلك على صورة ليتوانيا أي تلك البلاد الصغيرة التي يبلغ عدد سكانها نصف عدد سكان لبنان تقريباً، والتي لم تصل يوماً إلى كأس العالم أو كأس أوروبا في كرة القدم، لكن القصة مختلفة تماماً في الباسكت حيث فاز بالبطولة السلّوية الأوروبية وحصلت على ثلاث برونزيات أولمبية وأخرى في كأس العالم، وقدّمت ولا تزال نجوماً كثر إلى الدوري الأميركي للمحترفين.
أضف أن في كرة السلة يمكن أن تمنح المنتخب دفعاً قوياً بسبب سهولة المعايير الخاصة بالتجنيس الذي يبدو مستحيلاً في أحيانٍ كثيرة في كرة القدم حتى بالنسبة إلى اللاعبين ذوي الأصول المرتبطة بالبلد المعني. وهذه النقطة مفصلية في نجاحات أي منتخبٍ لأن المجنّس يشكّل إضافةً كبيرة في لعبةٍ لا يتخطى عدد لاعبيها على أرض الملعب الخمسة، بينما قد يحتاج الفريق الكروي إلى هذا العدد تماماً للحصول على التأثير الإيجابي إذا ما تمكن من الإقدام على أي خطوة من هذا النوع.

المال عنصر حاسم
كل هذا يجب النظر إليه، والى سببٍ آخر يمكن أن يمنح لبنان دائماً أفضليةً على الكثير من البلدان الآسيوية التي تبدو عملاقة في كرة القدم وخجولة في كرة السلة. هذا السبب يرتبط بالميزانية المالية المخصّصة للرياضة في البلدان القريبة والبعيدة، ومنها السعودية أو حتى كوريا الجنوبية، بحيث أن النسبة الأكبر من ميزانية دعم الدولة تخصّص لكرة القدم مقابل نسبةٍ بسيطة للرياضات الأخرى مجتمعةً، ما يجعل الفرق الكروية قوية ومتطوّرة، وتلك السلّوية وكأنها تسير بتطوّرٍ بطيء، وذلك في موازاة توجّه النشء إلى الملاعب الخضراء التي تؤمّن ربحاً أكثر.
هذه النقطة وما سبقها بالتحديد يمكن للبنان الاعتماد عليهما لتحقيق الإنجازات في كرة السلة حيث تأتي الميزانية تلقائياً من مموّلين يجدون فيها أقل كلفةً لناحية دفع المبالغ لفريقٍ في الدرجة الأولى بدلاً من ترؤس نادٍ لكرة القدم وتأمين ميزانيةٍ سنويّة لأكثر من فريق. وهنا باختصار حيث يوجد عنصر المال، يوجد النجاح، وهو الذي ساعد ورفع كرة السلة في عصرها الحديث بعدما اقتحمها بقوة الداعمون والمستثمرون والباحثون عن أصواتٍ انتخابية أو شهرةٍ أو مجد، بينما عانت غالبية أندية الفوتبول لتأمين ميزانية بسيطة تسمح لها بالاستمرار والبقاء على قيد الحياة.
ببساطة، يمكن أن تظل كرة السلة أمثولةً للنجاح الرياضي اللبناني، وهو أمرٌ تعزّز بعد الإنجاز الرائع للناشئين، لكن تشريح ماضيها وواقعها يفرض عدم مقارنتها بأي رياضةٍ أخرى وتحديداً كرة القدم التي تملك خصوصيتها ونجاحاتها ولو كانت محدودة، وذلك بانتظار بلدٍ أفضل ودولةٍ أفضل واهتمامٍ أكبر بمواهبها وأنديتها وملاعبها المتروكة لمصيرها.