لم تأت البطولة إلى إنكلترا كما كان يتمنى الإنكليز. لقد ذهبت إلى العاصمة الإيطالية روما بعد أن احتكم الفريقان لركلات الجزاء. منذ بدء المسابقة، قدم الطرفان أداءً لافتاً رشّحهما لبلوغ الدور النهائي. تشكيلتان شابتان اتصفتا بالنجاعة الهجومية والتوازن في الخطوط مكّنتاهما من تجاوز مختلف العقبات، غير أنّ بعض التفاصيل الفنية جعلت اللقب يبتسم للمنتخب الإيطالي في نهاية المطاف.تحسن المنتخب الإنكليزي في السنوات الماضية. فبعد وصول «الأسود الثلاثة» إلى نصف نهائي كأس العالم في النسخة الروسية الأخيرة، بلغ الإنكليز الدور نصف النهائي من دوري الأمم الأوروبية، ليتجلى الإنجاز بالوصول إلى نهائي اليورو هذا العام. في بادئ الأمر، تم نسب التطور إلى المدرب غاريث ساوثغايت، غير أنّ بلوغ القمة دون حصد المجد والألقاب شوّه من الصورة السائدة في الوسط الرياضي، وباتت المعادلة تقضي بأنّ المنظومة نفسها هي من ساهمت في نجاح ساوثغايت، وليس العكس.
ظهر جلياً ضعف ساوثغايت في المباراة النهائية. فرغم تقدم إنكلترا بهدفٍ في وقت باكر عن طريق الظهير الأيسر لوك شو، حُرم الإنكليز من لقبهم الأول منذ عام 1966 بعد الخسارة في ركلات الجزاء.
واجه ساوثغايت العديد من الانتقادات خلال البطولة، تمحور أغلبها حول عدم إشراك جناح بوروسيا دورتموند المتألق جايدن سانشو، إضافةً إلى تهميش ظهير تشيلسي الشاب ريس جايمس الذي تألق خلال الموسم المنصرم، دون إغفال اختياراته «المثيرة للجدل» حول اللاعبين الذين نفذوا ركلات الجزاء في النهائي. وبعد الخسارة المخيبة، اعترف ساوثغايت بارتكابه بعض الأخطاء قائلاً: «هذه مسؤوليتي. اخترت اللاعبين لتنفيذ الركلات. أخبرتهم أنه لا يوجد أحد بمفرده في هذا الموقف. نفوز ونخسر معاً كفريق واحد». من جهتها، أطلقت الصحف الإنكليزية نيرانها على المدرب ساوثغايت مطالبةً إياه بالرحيل بعد فشله في اعتلاء منصات التتويج، رغم أنّ الفرصة كانت سانحة في أكثر من مناسبة في السنوات القليلة الماضية.
اعترف ساوثغايت بارتكابه بعض الأخطاء منذ الدور الأول من البطولة القارية


على المقلب الآخر، تغنّت الصحف الإيطالية بمدرب منتخبها روبيرتو مانشيني على خلفية الإنجاز الذي حققه خلال بطولة اليورو. «المقامرة» التي قام بها المدرب الداهية إثر تغيير «جلد» إيطاليا الكروي جاءت بحصادها، حيث ساهمت المنظومة الهجومية برفع اللقب الأوروبي المنتظر. رغم أنّ الفضل في ذلك يعود إلى تضافر جهود الجميع، إلا أنه لا بدّ من إنصاف الرجل الأول الذي وقف وراء عودة إيطاليا إلى الواجهة من جديد، وهو المدرب «المتمرّد» روبيرتو مانشيني.
فور تسلّمه مهمة تدريب الأتزوري، كشف مانشيني عن سبب قبوله الوظيفة مشيراً إلى أن الهدف الأول هو عودة المنتخب إلى قمة العالم من جديد. أشهرٌ قليلة عكست مدى صحّة كلماته بعد أن أعاد المجد لبلاده.
لم تكن الطريق معبّدة إلى ذلك، حيث قام مانشيني بخفض معدّل الأعمار الذي كان سبباً رئيسياً في انهيار المنتخب عام 2018، وقد تمكن من ذلك على مراحل متقطّعة مع حفاظه على بعض عناصر الخبرة مثل جيورجيو كيليني، ليوناردو بونوتشي، ماركو فيراتي وجورجينيو. بعد إيجاد التوازن بين الحافز، المهارة والخبرة، انتقل مانشيني إلى «تغيير العقلية»، حيث عمل على استغلال مواهب المنتخب الشابة، التي تناسب متطلبات الكرة الحديثة وسخّرها في تغيير نظام اللعب. هكذا، غيّرت إيطاليا «جلدها» مع مانشيني الذي اعتمد خطة (4-3-3) في سبيل تنفيذ أفكاره. ورغم عدم فاعلية رأس الحربة في الفريق، كان لجهود إنسيني وكييزا ومن خلفهما جورجينيو والبقية الفضل في رفع الكأس.
وفي أمسية جاءت فيها العديد من قرارات نظيره الإنكليزي جاريث ساوثغايت بنتائج عكسية، كانت قرارات مانشيني صحيحة في الأوقات المهمة، حيث أبقى على فريقه منتعشاً بالتغييرات على مدى 120 دقيقة ما ترك أثراً كبيراً على المباراة وحوّلها في اتجاه المنتخب الإيطالي. نجح الأزوري تدريجياً في «إسكات» الجماهير الإنكليزية الصاخبة وأنهى الشوط الأول بصورة أقوى دون أن يجهد نفسه. وفي بداية الشوط الثاني، أخذ مانشيني زمام المبادرة وأشرك برايان كريستانتي بدلاً من نيكولو باريلا في وسط الملعب وأخرج المهاجم تشيرو إيموبيلي ليشارك دومنيكو بيراردي، الأمر الذي ساهم في احتواء الإنكليز، وبالتالي سيطرة إيطاليا على الكرة، حيث منح كريستانتي على وجه الخصوص حضوراً بدنياً وطاقة أكبر ما ساعد المنتخب على الاستحواذ على الكرة بصورة أكبر.

كانت تبديلات ساوثغايت غير مدروسة خلال النهائي (أ ف ب )

لم يكن مانشيني خائفاً من استبدال لاعبين أساسيين في وقت لاحق من المباراة ليضمن استمرار «الريتم العالي»، حيث خرج إنسيني المرهق في الدقيقة الـ 90 وغادر ماركو فيراتي الملعب بعد ست دقائق لاحقة ليشارك مانويل لوكاتيلي.
أثبت مانشيني خلال هذا اليورو أنه مدرب يحمل عقلية انتصارية. المدرب الإيطالي ومنذ الدور الأول أشرك جميع لاعبيه في المباريات، حتى إنه في مباراة ويلز أشرك الحارس البديل سيريغو في آخر الدقائق لكي يعطيه بعض المعنويات، ولكي يثبت له أنه جزء من المنظومة. في تلك الفترة ربطت الصحافة الإيطالية هذا الأمر باستدعاء مانشيني إلى مونديال 1990 وعدم إشراكه في أي مباراة. المدرب الإيطالي أوصل فكرة إلى الجميع هنا أن كل عناصر المنتخب أساسيون ولهم دور في البطولة. هذا الأمر كان معاكساً تماماً لفلسفة ساوثغايت الذي أشرك لاعبين محددين وأهمل آخرين على رأسهم سانشو وفودين... مانشيني لعب على العامل النفسي للاعبين ونجح باحتوائهم، وهذا أمر يُحسب له. وكان لافتاً أن صحيفة «لا غازيتا ديللو سبورت» أعطت مانشيني علامة 10/10 في اليورو.
هكذا، أصبح مانشيني أول مدرب إيطالي يقود المنتخب الوطني إلى اللقب الأوروبي منذ فيروتشيو فالكاريجي في عام 1968، محققاً ذلك على خلفية مسيرة من 34 مباراة دون هزيمة. إيطاليا ممتعة مع مانشيني، وقد استعادت مجدها من جديد بانتظار ما سيقدمه الأزوري في كأس العالم المقبلة.