العودة إلى تسعينيات القرن الماضي تأخذنا إلى العديد من المشاهد الجميلة في ملاعب كرة القدم اللبنانية. لاعبون أصابوا النجوميّة محلياً وبقيت أسماؤهم محفورةً في السجلات الذهبية وذاكرة المشجّعين المتابعين للعبة عن كثب، والذين يستذكرونهم للتشبيه في كلّ مرةً تبرز فيها موهبة جديدة أو في كل مناسبة شهدت تألق لاعبٍ من خلفائهم في الملاعب.لكن رغم كل هذه الهالة التي أحيطت بنجوم اللعبة سابقاً، لم يجد الكثير من المميزين منهم الطريق إلى الخارج من أجل صناعة مسيرةٍ جديدة تعطيهم حقهم، وهي مسألة تبدو مغايرة بشكلٍ كبير للوضع الحالي حيث بات سهلاً إلى حدٍّ ما بالنسبة إلى العديد من اللاعبين أصحاب المستوى المقبول إيجاد فريقٍ خارجي، وذلك في موازاة قبول أندية تابعة لبلدانٍ معيّنة فكرة التعاقد مع لاعبٍ لبناني.
وبين الماضي والحاضر تبرز الأسباب التي تترك مشهداً مختلفاً، إذ إن ما يفتح المجال أمام ذهاب اللاعب اللبناني لتجربة حظه خارجاً هو طبيعة تسويق اللعبة المختلف حالياً حيث الإضاءة على اللاعب بشكلٍ أكبر إن كان من خلال الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي. وبالتأكيد ساهم عالم «الإنترنت» في فتح المجال للوصول إلى كمٍّ أكبر من المعلومات عن اللاعبين، ما عرّف الأندية الخارجية أكثر باللاعب اللبناني، وذلك في وقتٍ كانت مسألة الكشافين بعيدة عن عمل الأندية سابقاً، فهي حتى أصبحت ناشطة باحتراف في أوروبا خلال التسعينيات. أما في آسيا، فكانت الأمور مرتبطة بلعب هذا الفريق مباراةً ضد فريقٍ أجنبي أو دورة خارجية ليكتشف قدراته النادي الخصم، وبالتالي يملك فرصةً للعب بعيداً من الوطن.

الهروب من «جحيم لبنان»
بطبيعة الحال، لا يمكن الحديث عن تصديرِ بالجملة للاعبين لبنانيين إلى بلدانٍ أخرى، بل عن محطات لا يمكن وسمها بالاحتراف الصرف إذا ما أخذنا في الاعتبار أن الاحتراف هو عبارة عن بناء اللاعب مسيرة واضحة وناجحة في بلدٍ أو أكثر فيها استمرارية ممزوجة بالتألق تبقى راسخة في أذهان متابعي اللعبة، تماماً كما فعل رضا عنتر ويوسف محمد في ألمانيا وحسن معتوق في الإمارات.
هذه الأسماء هي عبارة عن استثناءات، إذ إن وجهة اللاعب اللبناني محصورة ببلدانٍ معيّنة في آسيا، أمثال ماليزيا وأندونيسيا، أو في بلدانٍ عربية مثل العراق وحديثاً الأردن. طبعاً مع بعض الاستثناءات الخاصة حصراً بلاعبين وُلدوا كروياً خارج لبنان، فاحترفوا في بطولات أهم، أمثال جون العمري (طوكيو الياباني)، وباسل جرادي (وقّع أول من أمس مع أبولون القبرصي)، وغيرهم من العناصر الذين برزوا مع المنتخب بعد استعادة جنسيتهم للعب مع منتخب الوطن.
أما سبب العمل على استقطاب اللبناني وقبول بعض اللاعبين اللبنانيين رغم أن مستواهم عادي لا يخوّلهم للعب بعيداً من لبنان، فهو أولاً الأنظمة المتعلّقة باللعبة في بعض البلدان، حيث يُسمح بإضافة لاعبٍ آسيوي إلى أجانب الفريق. أضف أن نوعية اللاعب اللبناني الذي يُعدّ من المستوى الأول هي مقبولة وأفضل من اللاعب المحلي في بطولاتٍ وطنية مثل ماليزيا وأندونيسيا على سبيل المثال لا الحصر.
يقبل اللاعبون اللبنانيون أي فرصة للخروج من «جحيم البلاد» المترنّحة بفعل الأزمة المالية


ويوضح وكيل أعمال اللاعبين رامي سعود في حديثٍ مع «الأخبار» أنه «في ظل تأثر كرة القدم عالمياً تأثرت أسعار اللاعبين في أوروبا وآسيا، فوجدت بعض البلدان سهولة في الوصول إلى اللاعب اللبناني غير المكلف بالنسبة إليها مقارنةً بلاعبيها الأجانب، وهي مسألة قد تكون مرحلية لأنه مع نهاية «كورونا» سيكون من السهل الوصول إلى أجانب أفضل وبأسعار جيّدة، فينتفي سعي أندية من الأردن أو العراق مثلاً للتعاقد مع اللبنانيين».
في هذه الأثناء يقبل اللاعبون اللبنانيون أي فرصة للخروج من «جحيم البلاد» المترنّحة بفعل الأزمة المالية التي تركت أثراً سلبياً على اللعبة بشكلٍ مباشر، لذا يجدون في أي عرضٍ مقدّم إليهم (غالباً من خلال وسيط) فرصةً لمحاولة الوصول إلى بلدٍ أفضل، إذ يدركون سلفاً أن الكشافين لا ينتظرونهم في الدوري اللبناني، والدليل أن خروج زملاء لهم للعب خارجاً كان بسبب مرور هذا المدرب أو ذاك بلبنان وتعرّفه إلى مستوى اللاعبين، تماماً كما حصل في حالة استقدام مدرب الوحدات الأردني والأنصار سابقاً عبدالله أبو زمع للثنائي أحمد زريق وسوني سعد، أو في حالة نقل مدرب النجمة السابق الأرميني أرمين للثنائي حسين شرف الدين وحسن مهنا إلى بلاده حيث تقاضيا مبلغاً زهيداً مقارنةً بالمبالغ المدفوعة في الخارج، لكنهما رغم ذلك وافقا على خوض المغامرة.

مشاكل ونهايات سريعة
في كل الأحوال، يجد اللاعب اللبناني في الخارج مشاكل مختلفة تعيده إلى الوطن سريعاً، ولهذا السبب ربما أصبحت نتيجة خروج أي لاعب معروفة سلفاً، فاللاعبون المنتقلون إلى شرق آسيا مثلاً يواجهون مشكلة في التأقلم مع طبيعة الحياة والطعام وغيرها، فيبدون ذهنياً وكأنهم عالقون في لبنان، بينما في بلدانٍ آخرى يواجهون مزاجية المسؤولين في الأندية أو نظرتهم إلى اللاعب اللبناني، الذي أصبح متعارفاً بأن نجاحه محدود خارجياً، والدليل أن قلّة تمّ التجديد لهم أو يمكثون في بلدٍ لموسمٍ إضافي، فالغالبية تعود بعد أشهرٍ معدودة إلى نادٍ محلي أو تبحث عن فرصة خارجية جديدة.

وقّع باسل جرادي مع أبولون القبرصي رسمياً (موقع نادي أبولون القبرصي)

وفي هذا الإطار يقول سعود: «دور وكيل اللاعبين مهم هنا لحماية اللاعب في المكان الذي لا يعرف أجواءه، وخصوصاً في أندية فيها تجاذبات بين مسؤوليها إذ كلٌّ منهم يريد اسماً أجنبياً معيّناً». ويضيف: «للوكلاء طريقتهم في توضيح الصورة أمام المسؤولين خصوصاً في البلدان العربية والآسيوية، حيث غالباً يتمّ تحميل الأجنبي المسؤولية فيتمّ استبداله عند كل كبوة».
وعند هذه النقاط يمكن التوقف، فالنجاح منوط أولاً وأخيراً بعوامل عدة، إذ لكي يحترف اللاعب على مستوى عالٍ، عليه أن يبدأ من مكان مستواه احترافي وعالٍ، وأن يكون قد نشأ على التأقلم مع أي ظرف كروي أو معيشي، وهي مسائل غير حاضرة في الحالة اللبنانية التي حوّلت اللاعب إلى هدفٍ وحيد وهو الذهاب للعب في الخارج بهدف كسب المال لا التأسيس لمسيرة طويلة، وخصوصاً في حالة اللاعبين الذين وصلوا إلى منتصف العمر الكروي، وذلك بعكس الأفارقة مثلاً الذين وإن كانوا يخرجون من ظروفٍ صعبة في الحياة فإنهم يجدون النجاح في عالم الاحتراف، كونهم ينتقلون إلى المستوى الأعلى في سنٍّ صغيرة، ما يجعلهم يتأقلمون مع ظروف حياتهم الجديدة لا بل يندمجون في البلدان التي يعيشون فيها بطريقة طبيعية.
ذهب الكثيرون وسيذهب أكثر ربما، لكن معيار النجاح النهائي يبقى لمن سيبقون في الذاكرة لسنواتٍ طويلة من خلال حضورهم المميّز في الخارج.