يصعب الحديث عن أسلوب المنتخب الإسباني، المتشعّب في تاريخه ولاعبيه وصراعاته ونقاط التقائه، من دون سماع موسيقى الـ«فلامنغو» الإسبانية في الخلفية؛ الإيقاع السريع الوتري مع جماعة «البالماس» المسؤولين عن التصفيق الايقاعي.
«مقدّمة الصولفيج» هذه هي للحديث عن أسلوب اللعب الإسباني، الذي يعتبر من أكثر المنتخبات غرابة في التباعد والالتقاء، لجمعه طرفي صراع سياسي وثقافي عمودي تاريخي، بين إقليم يريد الانفصال وعاصمة لا تريده.

ينقسم تاريخ منتخب إسبانيا إلى قسمين، ما قبل 2008 وما بعده. عامها أصبح منتخب «لا روخا» حديث الشارع الكروي بعد تحقيقه أول لقب قاري له بالتتويج ببطولة الـ" يورو" بعد نحس لازمه منذ عام 1932. تلاها تحقيق لقب كأس العالم عام 2010 ثم التتويج ببطولة أوروبا مجدداً عام 2012.

انجازات تجعل القارئ يتساءل: ما الذي تغيّر؟ وما هي العوامل التي جعلت إسبانيا إحدى أهم المنتخبات الأوروبية، لا بل نموذجاً للهيمنة؟
الإجابة من شوارع إسبانيا التي تجمع النقيضين؛ مدريد وبرشلونة. ومن خلال شكل شوارع هاتين المدينتين، يمكن إسقاط وفهم الأسلوب الكروي الخاص.

البداية من من شوارع برشلونة التي قد تبدو أنها، لسورياليتها، مصمّمة بالفوتوشوب. هناك المدينة مُقسّمة إلى وحدات مربعة مرتبطة ببعضها البعض، ويمرّ بينها شارع الـ«دياغونال»: شارع طويل يقسّم المدينة ويمرّ بها من أوّلها إلى آخرها. وإن أردنا إسقاط هذه الجمالية المعمارية على أسلوب لعب الإقليم الكاتالوني، فيمكن تشبيهه للعب التموضعي «Positional play»، الذي يشبه تماماً المربعات السكنية في المدينة.

دخل هذا الأسلوب ضمن التاريخ الحديث للكرة في إسبانيا، مع قدوم الأسطورة الهولندية يوهان كرويف، مدرّباً، إلى برشلونة عام 1988. يُنسب إلى الأخير فضل تحديث وعصرنة فريق برشلونة، وذلك من خلال تطبيق نظام لعب جديد عليهم، مستورد من أكاديمية الفريق الهولندي أياكس أمستردام، والمدرّب الهولندي رينوس ميتشل. أسلوب عُرف إعلامياً بالـ«تيكي تاكا»، وهي تسمية خرجت من أحد المعلّقين الإسبان خلال وصفه تحرّكات الفريق وكثرة تمريراته. الـ«تيكي - تاكا» هي تبادل المواقع وتحرّك اللاعبين ككتلة واحدة، وهو الأسلوب الذي وضعهم في مكانةٍ قدَّمت إلى كرة القدم أسلوب لعب مغاير تجلّى بأجمل حلله مع المدرّب الإسباني بيب غوارديولا الذي حقّق معهم «السداسية التاريخية». إنجاز غير مسبوق، بلغ 6 ألقاب في عام واحد: لقب الدوري المحلّي، لقب كأس إسبانيا الذي كان غائباً عن خزائنه مدة 13 عاماً، لقب دوري أبطال أوروبا الثالث للفريق في تاريخه، لقب «السوبر الإسباني»، لقب «السوبر الأوروبي»، وأخيراً لقب كأس العالم للأندية لأوّل مرّة في تاريخه.
حقق غوارديولا سداسية تاريخية مع برشلونة خلال عام واحد

على الضفة الأخرى، تقع العاصمة مدريد، حيث الجمالية أقل حدّة، والهواية الشعبية المعروفة هي مصارعة الثيران. المدينة هناك تتشابه وأبناءها مع أسلوب تفكيرهم وحتى أسلوب لعبهم لكرة القدم.
هنا يتكرّس الاهتمام بالتاريخ العريق والنتائج الكبيرة، وعزل النفس بأسلوب نخبوي. إنه ريال مدريد، النادي الملكي الذي يعتمد على تسجيل الأهداف بكثرة عبر نجوم كبار وأسماء لامعة. هنا بريستيج مدريد وصيتها: مدينة ملكيّة.
اعتمد ريال مدريد تاريخياً على تكوين فريق من ثُلّة النجوم. فكرة الـ«غالاغتيكوس» لم تكن طارئة على جيل الفرنسي زين الدين زيدان/البرازيلي رونالدو، بل تعود إلى فترة الستينات حيث ضم فريقهم كل من فرانسيسكو خينتو، المجري فيرينتس بوشكاش، والأسطورة الإسبانية ألفريدو دي ستيفانو.
الجميل في الكرة الإسبانية، أنها ثلاثية الأبعاد. فبعد ريال مدريد وبرشلونة، نصل إلى أتلتيكو مدريد. لا يمكن العبور فوقهم لا في الماضي ولا في الحاضر، خصوصاً أن عرّاب النجاح الأوروبي الإسباني والمؤسس لكل هذا الأسلوب هو المدرّب لويس أراغونيس الذي مرّ على الـ «روخيبلانكوس» لاعباً ومدرّباً في فترتين.
يُعتبر أراغونيس الأب المؤسس لأسلوب لعب "تيكي تاكا" في إسبانيا

منذ عام 2006 إلى عام 2014 شهدت سدة التدريب الإسباني تبادلاً فنياً «كوريوغرافي» للأدوار بين أب مؤسس هو أراغونيس، عرّاب أتلتيكو مدريد مروراً بمدرب ريال مدريد فيسنتي ديل بوسكي، والذي تزامنت فترته مع هيمنة فلسفة غوارديولا على الكرة الأوروبية.
سرّ نجاح إسبانيا، يختصره الإيطالي أريغو ساكي بقوله: «لقد اكتفى الإسبان من الصدمات والهزائم الثقيلة في مبارياتهم مع الإيطاليين والفرنسيين. فانطلقوا من مفهوم صحيح هو أن كرة القدم استعراض رياضي. ولكنهم لم يكونوا على معرفة ودراية بكيفية الدفاع. لذلك تطوّروا من خلال وضع المهارة الفنية التي تعلّموها في الصغر في خدمة الأداء الجماعي. وبعد ذلك كان الأمر يحتاج إلى أشخاص وأندية تجسّد هذا التطور وتستثمره».

اليوم، تدخل إسبانيا عهداً مغايراً مع مدرّب يحمل في فكره تجربتي ريال مدريد وبرشلونة، لكن بعناصر مختلفة وفلسفة بعيدة كل البعد عن العناصر التي كانت تهيمن على إسبانيا. فلا برشلونة هو برشلونة بأسلوبه الرومانسي الذي يجعل كاره الفريق يُشجّعه. ولا ريال مدريد، الذي اعتاد سياسة الأهداف الغزيرة سبيلاً للبطولات، بات يجد طريقه إلى المرمى بسهولة. وحده أتلتيكو مدريد ثابت على سياسة واحدة: «إمّا بتصيب أو بتخيب».
لإسبانيا اليوم مع المدرّب لويس أنريكه وجه مغاير تجريبي، ستنكشف أوراقه شيئاً فشئياً في هذه البطولة.