في عصر الـ Lockdown والإقفال التام بوجه الحياة من أجل الحفاظ على ما تبقى منها، يأتي الحديث عن أسلوب «الكاتيناتشو» أكثر منطقية وفي سياق أبعد مما كان عليه، وربما يأتي عام 2020 بكل مفاجآته ليُنصف هذا الأسلوب «القبيح» بعدما أصبح مفهومه يُطبق خارج المستطيل الأخضر بهدف إنقاذنا جميعاً.
«الكاتيناتشو» كلمة إيطالية، معناها «القفل». هو رسم تكتيكي كروي دفاعي بحت؛ «اللعب من أجل الفوز وليس من أجل متعة اللعب». الفوز ولا شيء آخر. كالنجاة بأي ثمن.
كروياً، تُتهم بالتصلّب التكتيكي إن كنت من أنصار «الكاتيناشيو». أنت تلقائياً «عدو اللعب الجميل»، إذ إن كرة القدم هي أهداف ومتعة للجمهور، لكن واقعياً في 2020، العالم بأسره بات من أنصار «أسلوب القفل» من أجل النجاة.

«النموذج الإيطالي»
في معرض توعية الشعوب من مخاطر الانزلاق إلى المحظور صحياً، تلجأ وزارات الصحة إلى التهويل من خطر الانزلاق إلى النموذج الإيطالي، حيث كانت إيطاليا بؤرة الوباء الثانية بعد ووهان الصينية، وفي معرض الحديث الكروي التكتيكي أيضاً، يبتعد عشّاق «الكرة الجميلة» أو المتعة عن «النموذج الإيطالي الكروي» (رغم تطوّره عن الفكر الدفاعي البحت). إذ لا يزال «الكاتيناتشو» يبحث له عن مُنصف أو شرح يُعطيه حقّه التكتيكي. فمقارنةً بثورة رينوس ميتشال ومفهوم الكرة الجميلة، يظهر الأسلوب الإيطالي بوجه «قبيح»، لكنه كان فعّالاً وأتى ببطولات وأسس لحقبة تاريخية في الكرة الإيطالية. أمّا اليوم، فبات أقرب إلى الماضي وإلى التُهمة في إيطاليا بعدما تعالت أصوات كثيرة: «ابتعدوا عن الثوب الكروي القديم لتحيوا».

تماهي الشعب عبر التاريخ الإيطالي
لطالما كانت كرة القدم في إيطاليا عبارة عن «فرصة» للنظام الحاكم لاستخدام البطولات والمباريات كساحة للدعاية السياسية (البروباغاندا). تماماً كما فعل موسوليني في كأس العالم 1934، وذلك بسبب التعلّق العاطفي الشديد بين الجمهور والأندية في إيطاليا.

كان للشعب الإيطالي تأثير كبير على مفهوم كرة القدم. طبع أسلوبُ تفكيره وتجاربه منذ الحرب العالمية الثانية طريقة اللعب في إيطاليا.

مفهوم «الكاتيناتشو» الخالص تجلّى في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. حقّق نجاحه بين الأندية واللاعبين لشدة انضباط أسلوبه والقوة الذهنية التي يتطلّبها من اللاعبين الذين يريدون الفوز وعدم تلقّي الأهداف بأي ثمن.

«صراع الطبقة العاملة»!
وصَف عالم الاجتماع أنطونيو نيغري أسلوب «الكاتيناشيو» بصراع الطبقة العاملة في إيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية: «الأفراد ضعفاء وعليهم الدفاع عن أنفسهم للبقاء. أسلوب اللعب هذا يتماهى مع المهاجرين من إيطاليا، الجائعين الذين يتمتعون بغريزة البقاء».

لم يُسمح للاعبين الأجانب بالاحتراف في إيطاليا حتى سبعينيات القرن الماضي، أسلوب اللعب وطريقته واعتناقه كان «إيطالياً بحتاً»، وأفضل المدافعين عبر التاريخ أتوا من الملاعب الايطالية، «هم لا يخشون أن يضعوا رؤوسهم حيث يخشى الآخرون أن يضعوا أقدامهم».

أدخل المدرّب نيريو روكو مفهوم «الكاتيناشتو» إلى الكرة الإيطالية من بوابة اي سي ميلان 1961. هو ناقلها الفعلي إلى إيطاليا لكنه ليس عرّابها إلى العالم. العرّاب هو الأرجنتيني هيلينيو هيريرا، الذي عرّف العالم، لا إيطاليا فقط، على اللعب من أجل الفوز لا من أجل المتعة، وعلى فكرة «إلغاء مهاجمي الخصم». لكن على عكس ما أشيع ويُشاع عن «كاتيناتشو» هيريرا بأنه أسلوب لعب دفاعي بحت، فإنه ارتكز على فكرة «اقتناص الفرص للتسجيل»، وذلك انعكس في أغلب نتائج «الإنتر» التي انتهت بـ1-0 لكن مع منصات تتويج.

اللافت في حياة هيريرا أنه درّب كلاً من أتلتيكو مدريد وبرشلونة قبل تسلّم مهمّة تدريب إنتر ميلان (أتلتيكو مدريد المثال الصارخ على الأسلوب الدفاعي منذ عهد دييغو سيميوني، وبرشلونة النقيض التام لمفهوم الكرة القبيحة، لا بل النادي الذي يُعاني اليوم بسبب عدم قدرته على الالتزام بالكرة الشاملة). مسيرته تحثّ على التفكير في التغيير الكبير والتنوّع الأكبر في مفاهيم كرة القدم منذ الستينيات حتى اليوم.

حصد هيريرا مجداً كروياً، ليس فقط بسبب أسلوب لعبه بل أسلوب التمارين القاسي الشبيه بالتمارين الحربية، إضافة إلى الانضباط وارتباطه بالمردود، لدرجة تم تشبيه انضباطه بالأساليب المتّبعة في معامل «فورد» في ميلان وتورين آنذاك. كان يدير مصنعاً لا فريقاً.

هذا النجاح أهدى هيريرا مهمّة تدريب المنتخب الإيطالي لتلتصق كلمة «كاتيناتشو» بالكرة الإيطالية بفهم وبدونه. فهناك فارق كبير بين إجادة الدفاع وبين الأسلوب الدفاعي البحت، وهو لغط لا يزال يدور في أروقة الحوارات الكروية حول العالم.

بين خمسينيات وستينيات القرن الماضي كان «الكاتيناتشو» هو اللغة الكروية في إيطاليا، يُمتدح حتى من قبل الصحافيين وعلماء الاجتماع. كانت «المباراة المثالية» وفق الصحافي الإيطالي الشهير جياني بيريرا هي التي تنتهي بنتيجة 0-0 (التعادل السلبي)، لأن في هذه الحالة «تكون المباراة مثالية والجميع قام بمهامه».

عرّاب الـ«الكاتيناتشو» هو الأرجنتيني هيلينيو هيريرا، الذي عرّف العالم، لا إيطاليا فقط، على اللعب من أجل الفوز لا من أجل المتعة.


التغطية الزائدة مفتاح الأمان
«الهجوم يؤمّن لك الفوز. الدفاع يضمن لك البطولات» – سير أليكس فيرغسون.

يُروى عن المدرّب المغمور جيبو فياني أنه خلال سيره على موانئ روما في أربعينيات القرن الماضي، استوقفه مشهد رمي الصيادين لشبكة ثانية، سُمّيت بشبكة الأمان لتلتقط الأسماك التي هربت من الشبكة الأولى. تأمّل بوجود حل إضافي لمشكلة فرار مهاجمي الخصم من مدافعيه، فأدرك أن زيادة العدد في التغطية ستحلّ أزمة فريقه الدفاعية، وتحوّل إلى اللعب بأربعة مدافعين.

نقل روكو هذه الفكرة في أسلوبه ولجأ إلى فكرة التفوّق العددي، ومنها إلى هيريرا الذي اعتمد خطة الـ5-3-2 (4 مدافعين وخلفهم الليبرو، «صاحب المهام القذرة»، التغطية خلف المدافعين وإرسال الكرات الطولية إلى وسط الميدان والمهاجمين للهجمات العكسية). حقّق ثلاثة ألقاب: الدوري الإيطالي ولقبين أوروبيين من 1962 إلى 1965 مع إنتر ميلان.

شدّة التنافس في حقبة أواخر الستينيات والسبعينيات جعلت الأندية الإيطالية ولاعبيها يدخلون في دوامة منشطات ومراهنات أدخلت الكرة الإيطالية في سلسلة فضائح انعكست بشكل كبير على الأسماء المتوّجة باللقب. هذا التخبّط الرياضي كان مرافقاً لتخبّط سياسي كبير في البلاد. انقسام واغتيالات، وصولاً إلى «الانبعاث الإيطالي الجديد» الذي ولّده كأس العالم 1982 الذي خاضته إيطاليا بـ«كاتيناتشو» مُعدّل: بروحية الأسلوب الدفاعي، لكن مع تعديل على بعض قوانين هيريرا. كانت إيطاليا بأكملها تمر بمرحلة «التعديل على البروتوكول» من شارعها إلى رئيسها بيرتيني – المشجع الأول للمنتخب والثائر على صورة مقام الرئاسة الأولى في البلاد – إلى الشعب الإيطالي الذي أنهكته الفضائح ورأى في انتصار 1982 «غفراناً للذنوب» ومرحلة جديدة.

في هذه النسخة من كأس العالم، لم تكن إيطاليا المرشحة للفوز. كانت منهكة والصحافة تصوّب سهامها على مدرّب المنتخب آنذاك اينزو بيرزوت لاختياره باولو روسي، أحد نجوم فضائح المراهنات، ليكون مهاجم المنتخب، إضافة إلى الحارس المخضرم دينو زوف، لكن في نهاية المطاف توّج باولو روسي بلقب هداف البطولة وزوف رفع الكأس.

الشارع الرياضي الإيطالي محكوم بالعواطف والانتماءات، هو أرض خصبة للاستثمار السياسي، من موسوليني مروراً بيريتيني وصولاً إلى تجربة سيلفيو بيرلوسكوني، وأي تغيير في الكرة الإيطالية كان دوماً مقروناً بتغيير بشكل التصرّف السياسي مع الشعب الإيطالي أو مع أسلوب حياة الشارع الإيطالي.

لا زال الدوري الإيطالي يُصنّف بالدوري الدفاعي المعتمد على «الكاتيناشيو»، لكنه مفهوم خاطئ، يلجأ أنطونيو كونتي إلى أسلوب دفاعي متحفّظ، برفقة بعض المدرّبين الآخرين لكن «الكاتيناتشو» لا تحكم الكرة الإيطالية اليوم، والدليل هوية هداف الدوريات الـ 5 الكبرى هو تشيرو إيموبيلي، إضافة إلى نادي أتالانتا بأكمله الذي نافس بايرن ميونيخ موسم 2019-2020 كأكثر الأندية تسجيلاً للأهداف خلال الموسم، متخطياً عتبة المئة هدف.

حتى منتخب إيطاليا يُثبت العكس بحقبته الجديدة مع روبيرتو مانشيني، والمعتمدة بأغلبها على الأسماء الهجومية الشابة من مويس كين إلى زانيولو بنتائجه الإيجابية المميزة التي غابت عن المنتخب (أكثر من 11 فوزاً متتالياً)، ما يؤكد أكثر أن هناك سوء فهم أو لغطاً كبيراً حول الأسلوب الدفاعي للاعبين.

في ما مضى كان على الحارس أن يكون جيّداً بالتصدّيات والتمركز. اليوم، حتى وإن كان أسلوب فريقه دفاعياً، على الحارس أن يكون جيّداً على مستوى القدمين والتمرير. كذلك الأمر لقلوب الدفاع التي ما عادت مهمّتم تقتصر على التغطية الدفاعية.

إذا قارنا معدّل الأهداف فسنجد فارقاً كبيراً، لكن الأرقام لا تشير إلى نوعية لعب، بل هي إشارة إلى أثر تقنية الفيديو التي باتت تؤثّر كثيراً على المردود التهديفي جراء احتساب أكبر لركلات الجزاء، إضافة إلى محاسبة أكبر لقسوة المدافعين.

الفارق بين «ركن الباص» و«الكاتيناتشو»
في مناسبات عديدة تفوّقت الكرة الدفاعية، وانتقمت لـ«الكاتيناتشو» وخسارة كأس العالم أمام كرة البرازيل الهجومية. وذلك ليس عبر تطبيق الأسلوب بحذافيره، بل عبر تقنية «ركن الباص» التي اقترنت بأسماء تدريبية كبيرة، منها جوزيه مورينيو أو روبيرتو دي مايتو أمام برشلونة في نصف نهائي دروي الأبطال 2012، الأسلوب الدفاعي موجود ومباح والكرة الجميلة لا تنتصر دوماً.

«ركن الباص» لا يعتمد على 4 أو 5 مدافعين، بل على Block؛ كتلة لاعبين متراصين دون فتح مساحات للخصوم. هذا ليس «الكاتيناشتو» ولن يكون. بل هو مرونة عند بعض الأندية التي ممكن أن تطبقها ضمن خططها خلال المباراة الواحدة، أو أسلوب لعب للفرق التي تمتلك لاعبين ذوي جودة دفاعية (أتلتيكو مدريد أو حتى بايرن ميونيخ الموسم الفائت) أو طريقة للفريق الأقل قوة أمام الفرق الكبيرة (بيرنلي أمام مانشستر سيتي).

لكل عصرٍ كروي إعلامه ومنتقدوه، وعصر «الكاتيناتشو» لا يزال حتى اليوم يُحمّل انتقادات بسبب مقارنته بعظمة أسلوب آخر أكثر بريقاً واستقطاباً للجماهير في عصر البث المباشر. «الكاتيناتشيو» كأسلوب لعب بات من الماضي في إيطاليا، لكنه اليوم بات أسلوب حياة في العالم بأسره.