يقول كثيرون إن كرة القدم اللبنانية لم تصل يوماً إلى العالمية، لكنّ هذه العبارة تسقط حتماً عند ذكر اسم عدنان الشرقي. ذاك الرجل التاريخي لاعباً ومدرباً لم يكن كروياً عادياً بل هو من طينة أولئك العظماء والفلاسفة الذين تستمتع في كل لحظة تجلس فيها معهم بغضّ النظر عن نوع الموضوع أو الحوار.لقاؤنا الأخير كان في 14 تشرين الاول عام 2019 خلال مقابلة تلفزيونية اي قبل ايامٍ قليلة على انطلاق التحركات الشعبية التي اعقبها توقف النشاط الكروي في لبنان.
[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
في تلك الحلقة لم أتمكن من إيقاع الرجل السبعيني في أي "فخ" من خلال الأسئلة التي طرحتها عليه. هو ضيفٌ صعب لا يمكنك التغلّب عليه بسهولة وسحب كلامٍ يثير الضجة والجدال، كونه يبدو بجهوزيةٍ تامة للتصدّي لأي موضوع رياضي، سياسي، اجتماعي، ثقافي أو غيره. هو أصلاً كان خصماً صعباً لأي مدربٍ واجهه، وهو صعّب الأمور على لاعبيه دائماً بغية جعلهم أفضل، فكانت حتى كلماته القاسية وأحياناً الخارجة عن الأطر الطبيعية في علاقة المدرب واللاعب محبّبة ومقبولة بالنسبة إليهم.
فعلاً لا يمكنك التغلّب على رجلٍ لم يعرف في حياته سوى طريق الانتصارات والإنجازات التي نقل من خلالها الأنصار والكرة اللبنانية إلى العالمية بعكس ما يعتقد البعض. هو يعرف الإجابة عن كل سؤال من دون تردد أو تفكير، وهي مسألة مذهلة بالنسبة إلى سنّه. كما يعرف تماماً اختيار كلماته وتوجيهها نحو الهدف بدقة، تماماً أيام كان لاعباً، وطبعاً عندما صار مدرباً حيث صنع النجوم وأرشدهم إلى طريق الأهداف والنجومية في ملاعبنا اللبنانية.
مدهشاً كان الراحل الكبير، فهو كان بإمكانه ملء ساعاتٍ وحلقاتٍ على الهواء مباشرة من دون أن يكرر نفسه، لدرجةٍ تشعر أنك تنهل من مكتبة كروية لا حدود لمراجعها الثقافية. لذا ورغم ابتعاده عن مقاعد التدريب واكتفائه بالجلوس في المدرجات لمتابعة المباريات، كان ظهور الشرقي بين الحين والآخر للإضاءة والتصويب أمراً ضرورياً في كل موسمٍ كروي.
يُعتبر الشرقي من الجيل الكلاسيكي المتمسّك بالتقاليد وبالمنطقة وبالعيش ببساطة


بصراحته وحسّه الفكاهي الناقد من دون أذية، يوجّه البوصلة نحو المكان الصحيح. لهجته البيروتية المحبّبة تجعلك تذهب إليه للحديث معه والاستمتاع بما يقوله، وحتى تقبّل أسئلته ولو كانت ثقيلة في بعض الأحيان، وهو ما يعرفه المدربون واللاعبون الذين كانوا يلتقونه في الملاعب. تلك الملاعب التي لم يفارقها، لكنه نزع عنه الملابس الرياضية واستبدلها بأناقة لافتة، مزيّناً نفسه غالباً بربطة عنق وقبعة. هو أصلاً من الجيل الكلاسيكي المتمسّك بالتقاليد وبالمنطقة وبالعيش ببساطة بعيداً من الضجيج الذي كان غالباً صادراً عن الأفراح التي صنعها مع الأنصار في فترته الذهبية التي يعود الفضل فيها إليه قبل أي أحدٍ آخر.
أسهل رجلٍ في التعاطي والحديث معه رغم الرهبة التي تشعر بها عندما يعطي رأيه في مسألة كروية، كان صعباً الوصول إليه بعدما تجاهل اقتناء هاتفٍ خلوي، فكان الاتصال بالرقم الأرضي الخاص بمنزله هو السبيل الوحيد لضرب موعدٍ معه ومحاولة كسب جولةٍ في نزالات الأسئلة والأجوبة التي كان مَلِكها بحق.
صعبٌ تقبّل رحيل الشرقي، فهو ورغم سنّه المتقدّمة كان لا يزال مرجعاً لبنانياً، على صورة يوهان كرويف في هولندا، و"السير" الاسكوتلندي أليكس فيرغيسون في بريطانيا، و"القيصر" فرانتس بكنباور في ألمانيا. هو بالنسبة إلينا بمنزلة هؤلاء الذين يتركون الملاعب لكن هذه الأخيرة ترفض تركهم لأنها تنتمي إليهم، فهم جعلوا منها قبلة الأنظار وساحة المتعة.
رحل الشرقي تاركاً كرة لبنان والأنصار وأبو طالب وملعب بيروت البلدي والصحافيين الذين انتظروه غالباً قبل وخلال وبعد كل مباراة لتخليد ذكرى أخرى معه.
رحل جسداً لكنه سيبقى روحاً وتاريخاً وإرثاً لا يُقدّر بثمن ولا يُقارن بأحد. هو لم يخسر المعركة مع المرض لأنه لم يعرف طعم الخسارة يوماً.
هو لم يخسر، هو لم يمت.