يوم السبت الماضي أشرك مدرب الأنصار الألماني روبرت جاسبرت لاعباً بعمر الـ 17 سنة في واحدةٍ من المباريات المصيرية المهمة للفريق البيروتي أمام الإخاء الأهلي عاليه. صحيحٌ أن «الأخضر» كان متقدّماً بهدفين قبل دخول عمر بهلوان (نجل لاعب النجمة ومنتخب لبنان سابقاً خالد بهلوان)، لكن مجرد إشراك لاعبٍ بهذه السن في هذه المرحلة من الدوري من دون أن يملك أي خبرة للعب في الدرجة الأولى، هو مسألة يفترض التوقف عندها لأنها تعكس مشهداً إيجابياً مميزاً عرفه الدوري هذا الموسم، ويفتح الباب لتغيير النمطية المتّبعة في كرة القدم اللبنانية.طبعاً إشراك بهلوان في هذه المباراة لم يكن فقط بسبب عقلية جاسبرت، أي ذهنية المدرب الأوروبي الذي لا ينظر إلى سن اللاعب بل إلى قدرته على العطاء خلال تواجده على أرض الملعب. هذه المشاركة جاءت بطريقة طبيعية وعفوية في محطات كثيرة خلال الموسم ولدى غالبية فرق الدوري اللبناني التي فتحت المجال، مجبرة ربما، لإشراك لاعبين شبان لم يكونوا ليحصلوا على هذه الفرصة سابقاً.
قد تكون هذه المسألة سبباً بشكلٍ أو بآخر لضعف المستوى في البطولة، الذي حكى عنه البعض، لأن هناك الكثير من اللاعبين الجدد الذين دخلوا إلى ساحة الدوري، ومعظمهم لم يلعبوا سابقاً في الدرجة الأولى أو أنهم لا يملكون الخبرة الكافية للارتقاء إلى مستوى التحديات بحكم سنّهم الصغيرة. لكنّ هذه النقطة كان لا بدّ منها بالنسبة إلى الفرق التي خسرت الأجانب أو اللاعبين القادمين من الخارج، وبعضها خسر نجومه المنتقلين إلى الاحتراف.

فرصٌ نادرة للشبان
إذاً المشهد السلبي يقابله مشهد إيجابي واسع ستكون له بلا شك انعكاسات جيّدة على الكرة اللبنانية في المستقبل، وقد بدأ رسمه من خلال قرار الاتحاد اللبناني للعبة بإجبار الأندية على إشراك لاعبيها الشبان لعددٍ معيّن من الدقائق، وتحديد عدد اللاعبين الذين يشاركون في كل مباراة وهم في سنٍّ متقدّمة، وهو قرار ساعد أيضاً مدربي منتخبات الفئات العمرية الذين أصبحت لديهم مروحة من الخيارات، وتمكنوا من متابعة غالبية اللاعبين الواعدين بعدما أخذوا أدواراً خلال المباريات.
دقائق اللعب هذه هي الإيجابية الكبيرة هنا، إذ أن هؤلاء الشبان لم يتمكنوا من أخذ فرصتهم سابقاً بهذا الشكل لأن العقلية اللبنانية غالباً اعتبرت أن اللاعب الذي يبلغ من العمر 20 سنة لا يزال صغيراً للعب في دوري الأضواء، في وقتٍ تشير فيه الأرقام بوضوح إلى أن غالبية فرق الدوري في المواسم الخمسة الأخيرة اعتمدت على تشكيلات بمعدل أعمارٍ مرتفع، بحيث طغى عليها اللاعبون الذين وصلوا إلى سن الـ27 أو ما فوق، بينما لم تمانع أخرى من إشراك لاعبين في أواخر العقد الثالث من العمر طمعاً في تحقيق النتائج من دون النظر إلى المستقبل.
هذه النقطة بعدم الذهاب نحو تحديث التشكيلات من خلال الدفع بلاعبين صغار سببها الرئيس هو عدم ارتقاء هؤلاء الشبان إلى مستوى يخوّلهم اللعب في ساحة الكبار، وهي مشكلة تسبّب بها ضعف مدربي فرق الفئات العمرية الذين لم يكن بإمكانهم تطوير اللاعب، الذي بدا أنه يتعلم من خلال تجاربه الخاصة في الملعب، فاحتاج إلى وقتٍ طويل لبلوغ النضوج الكروي المطلوب وبلوغ مستوى مقبول، ما تسبّب بتأخير مشاركته كأساسي أو للعب دورٍ دائم في فريقه.
العقلية اللبنانية غالباً ما اعتبرت أن اللاعب الذي يبلغ من العمر 20 سنة لا يزال صغيراً للمشاركة في الدرجة الأولى!


طبعاً تحسّن الوضع على صعيد الفئات العمرية حالياً مع تطوير المدربين لأنفسهم من خلال انخراطهم في دوراتٍ خاصة، وتطوّر بالتالي مستوى اللاعبين الشبان، وزاد من خلال مشاركتهم في مباريات أعلى مستوى من تلك التي شارك فيها أسلافهم في بطولات الفئات العمرية. وهنا بات بالإمكان التعرّف إلى المستوى الحقيقي للاعب وإمكانية تطوّره، بينما كان الوضع سابقاً صعباً لحصول اللاعبين هؤلاء على فرصة تقديم أنفسهم في هذه المرحلة من مسيرتهم.

صناعة المواهب وتصديرها
انطلاقاً من هذه النقطة، يمكن القول إن الكرة اللبنانية باتت قادرة على تحضير اللاعبين للاحتراف في الخارج، فإذا برز أحدهم ستكون الفرصة متاحة أمامه ليقدّم نفسه إلى أحد الفرق الخارجية ليستفيد كروياً ومادياً. وقضية المال هنا هي الأهم في ظل الوضع الاقتصادي الصعب في البلاد، بحيث بات اللاعبون الشبان لا يمانعون الاستمرار في كرة القدم طالما أنها تفتح الفرص لهم للتخلّص من الأوضاع الصعبة، فيجدون أنها تستحق التضحيات، إذ أن بعضهم خرجوا للدراسة في الخارج لكنهم لا يمانعون العودة للعب في الدوري طمعاً في الحصول على عرضٍ خارجي يمكن أن يجلب لهم مبلغاً من المال، يفوق ما يمكن أن يحصلوا عليه من أي وظيفة ممكنة باختصاصهم في لبنان وحتى في البلدان العربية التي خفّضت مستوى الرواتب بالنسبة إلى اللبنانيين بحكم فارق العملة الجديد.
كما تبرز إيجابية أخرى ترتبط بالأندية تحديداً، والتي يمكنها الاستفادة من عملية بيع لاعبيها أو إعارتهم لتمويل نفسها. ويمكن أخذ العهد كنموذجٍ ناجحٍ في هذا الإطار، وهو الذي صدّر عدداً لا بأس به من اللاعبين إلى البلدان المختلفة في محيطنا وشرق آسيا، ما عاد بالربح عليه في ظل الأزمة المستجدة. لذا يفترض على الأندية أن تتعامل بذكاء ودقة في عملية إبرام العقود مع لاعبيها بوضع نسبة لها في حال انتقال أحدهم إلى الخارج، إذ يجب النظر إلى كرة القدم على أنها صناعة والمنتج هو اللاعب الموهوب الذي تصرف عليه الأندية المال وتقوم بتسويقه من خلال إشراكه في الملعب، لتستفيد لاحقاً من المردود المالي لانتقاله إلى الخارج.
لذا لا ضيرَ من القول إن هذه الإيجابية والفرصة المتاحة لإطلاق عملية التصنيع والتصدير يجب أن تتلقّفها الأندية في هذه المرحلة المناسبة، وذلك من خلال وضع استراتيجية تنشئة لأن استمراريتها قد تكون مرتبطة مستقبلاً في بيع اللاعبين والمواهب، وخصوصاً مع تقلّص قنوات الموارد المالية التي كانت تمدّها بالدعم والرعاية.
من هنا على الأندية أن تتحلى بنفسٍ طويل وتصبر لإنتاج المواهب، لكي تضمن التمويل الذاتي على غرار ما حصل مع العهد الذي استثمر في النجوم المحليين واللاعبين الأجانب فحصد لقب كأس الاتحاد الآسيوي وأكثر من مليون دولار كجائزة مالية، واستفاد تالياً من صيت لاعبيه بعد تألقهم القاري لتعويض ما دفعه لهم، ليكسب المال من خلال فتح باب الاحتراف أمامهم.
أضف إلى ذلك إيجابية أخرى هي أن اللاعب أصبح أيضاً يتحمّل المسؤولية أكثر من السابق، وخصوصاً عند ذهابه للاحتراف كونه بات يدرك أن هذه الخطوة هي إنقاذية بالنسبة إليه، فأصبح حذراً في مأكله ومشربه وطريقة عيشه للحفاظ على ما لديه أو لبلوغ درجة أعلى في المشوار الاحترافي، وبالتأكيد حماية لقمة عيشه التي لا يمكن أن يحصل على مثيلٍ لها في لبنان في الوقت الحالي.
فنياً، هناك أيضاً إيجابية تبرز على مستوى المنتخبات، إذ صحيح أن خروج اللاعبين للاحتراف أضعف الدوري المحلي وأفرغ المواهب منه، لكنه بلا شك ستكون له انعكاساته الإيجابية على مستوى المنتخبات. كما أن لخروج عددٍ كبير من اللاعبين إفادة للبلاد من خلال إدخال الأموال إليها من قبل القادمين من الاحتراف، والذين حصل بعضهم أخيراً على عقود تتخطّى قيمتها الـ 100 ألف دولار، وهو مبلغ كبير حالياً في خضم الأزمة المالية التي يمرّ بها لبنان وحاجته إلى استقطاب العملة الصعبة.