قد يختلف كثيرون سنويّاً حول هوية المدرب الأفضل في العالم، لكن لا شك في أن قسماً كبيراً منهم لديه اقتناع ضمني بأن الإسباني جوسيب غوارديولا هو الوحيد الذي يمكنه منافسة مدربه المفضّل، بغض النظر عن النتائج أو الألقاب التي حققها أو لم يحققها خلال موسمٍ كامل.ببساطة، قيمة غوارديولا لا تقاس بعدد الانتصارات أو بعدد الألقاب، فهذا المدرب الذي حصد النجاحات بسرعة قياسية بعد وصوله الى تدريب برشلونة، ترك أثراً إيجابياً كبيراً أينما حلّ في عالم الكرة: من إسبانيا، مروراً بألمانيا وصولاً الى إنكلترا.
يقول النجم الأرجنتيني السابق خورخي فالدانو: «غوارديولا هو أفضل مدرب في تاريخ كرة القدم، وتأثيره في اللعبة كبير جداً، حيث لم يترك أي مدرب التأثير نفسه على كرة القدم عموماً منذ نشأتها».
كلامٌ كبير من دون شك، وخصوصاً أنه يأتي على لسان رجل «مدريدي»، لكن الأكيد أن فالدانو أو أي أحدٍ يقول هذا الكلام ينطلق من اقتناع فنيّ بحت ظهر في العديد من المناسبات الكبيرة، لعل أبرزها كأس العالم 2010 التي أحرز لقبها المنتخب الإسباني للمرة الأولى في تاريخه، وذلك بعدما اعتنق أسلوب «بيب» بحكم وجود أعمدة برشلونة مع «لا فوريا روخا»، فكان طيفه حاضراً من خلال أسلوب لعب الإسبان وشخصية لاعبيه الذين نفّذوا المهمة على أكمل وجه بروحية الأسلوب الذي طبع أداء «البرسا» وحمله الى منصات التتويج.
القصة تكررت بعد 4 أعوام، إذ لا يخفى أن تأثير غوارديولا في كرة القدم الألمانية كان بارزاً، وقد ذهب مدرب المنتخب الألماني يواكيم لوف الى نسخ الكثير من أفكاره وزرعها في استراتيجيته، فكان اللقب العالمي من نصيب «المانشافت» في مونديال البرازيل.
طبعاً، ليس المقصود هنا القول إن «الفيلسوف الإسباني» كان خلف فوز المنتخبين المذكورين بالكأس الذهبية، لكن للإشارة الى مدى تأثير غوارديولا في اللعبة عموماً في كل بطولةٍ درّب فيها، حيث ظهرت الفرق التي أشرف عليها بصورة مختلفة عن كل الفرق الأخرى إن كان لناحية المستوى الفني العام أو لناحية الفعالية والجمالية في الأداء.
قيمة غوارديولا لا تقاس بعدد الانتصارات أو بعدد الألقاب بل بأثره الإيجابي على كرة القدم عموماً


هي مسألة أضاء عليها أحد أبرز المؤثرين في الرأي العام الكروي الإنكليزي، النجم السابق غاري لينيكر، الذي رأى أن الفضل يعود لغوارديولا في ما قدّمه منتخب «الأسود الثلاثة» خلال مونديال 2018، حيث تجاهل أسلوبه الكلاسيكي المبني على اللعب المباشر وانتقل الى طريقة لعب مبنية على الاستحواذ وتناقل الكرة من خلال التمرير المتواصل والدقيق.
وكلام لينيكر لم يأتِ من فراغ، إذ إن متابعي الكرة الإنكليزية يمكن أن يلمسوا بأن حتى فرق الدرجات الدنيا في البلاد ذهبت الى الاعتماد على التمرير بالدرجة الأولى، بعيداً من التركيز على كلاسيكية اللعب عبر الأجنحة، وهو الأسلوب الذي اشتهرت به الكرة الإنكليزية.
طبعاً، يعود الفضل في كل هذا الى اقتناع غوارديولا بما لقّنه إياه معلّمه الهولندي الراحل يوهان كرويف الذي كان يعتبر أن التقنية في كرة القدم ليست بترويض الكرة والتلاعب بها استعراضياً ألف مرة متتالية، لأن هذا الأمر يمكن أن يفعله أي كان من خلال التدرّب «فإذا رغبت بالاستعراض عليك الذهاب الى السيرك. التقنية هي عبارة عن تمرير الكرة من لمسة واحدة من خلال السرعة المناسبة وإيصالها الى القدم المناسبة لزميلك في الفريق».
هذا الكلام بقي في ذهن غوارديولا وأصبح محور فلسفته الكروية التي حوّل من خلالها كرة القدم الى أشبه بالموسيقى من خلال رجاله الذين نفذوا ما يطلبه منهم على صورة العازفين الذين يتفاعلون بحسب ما يوجّههم قائد الأوركسترا.
و»بيب» هو قائد حقيقي، ولدت معه موهبته وظهرت عليه لاعباً، وطفت أكثر عندما أصبح مدرباً. لكن الرجل الذي وصل الى العقد الخامس من العمر تميّز بأنه لم يحتفظ بهذه الهبة لنفسه، بل عمل على تقوية شخصية لاعبيه، وهي مسألة مفصلية في نجاحاته، وخصوصاً عندما قاد برشلونة الى 14 لقباً، حيث بدا أن هناك أكثر من قائدٍ في الفريق، لا فقط اللاعب الذي حمل شارة القيادة على ساعده الأيسر.
إذاً، غوارديولا يصنع النجوم أيضاً، رغم أنه لا يخفي بأن النجوم أنفسهم صنعوا منه مدرباً كبيراً، فهو بتواضعه يعتبر بأنه ليس المدرب الأفضل في العالم، بل إن الإمكانات التي أتيحت له والفرق القوية والغنيّة التي درّبها ساعدته على تحقيق الألقاب. لكن الواقع يعرفه الجميع: غوارديولا هو حالة استثنائية في عالم كرة القدم، إذ لا يولد كل يوم مدرب يحمل كل هذه الميزات التي تطبع شخصيته وفكره وفلسفته التي لطالما وجدت حلاً عند كل امتحان.