هم ليسوا أغبياء بالتأكيد، ومخطئ من يعتقد أنهم على هذه الشاكلة، فأولئك الذين لا يعرفون أهمية كرة القدم في أوروبا، هم وحدهم يمكنهم أن يستغربوا المحاولات الحثيثة لحكومات بلدانٍ أوروبية مهمّة لإيجاد الحلول من أجل إعادة عجلة كرة القدم إلى الدوران.ففي «القارة العجوز» تعدّ كرة القدم أسلوب حياة، ووسيلة دعاية للسياسيين، ومحركاً أساسيّاً في الاقتصاد، وصانعة أفراح الشعوب، والسلاح القوي في أيديهم لتخطّي أزماتهم. لذا ليس مستغرباً على الإطلاق أن تنشغل الحكومات بالتنسيق مع الاتّحادات لإيجاد السبل الضرورية لعودة المنافسات، وهو ما بدا جليّاً في إنكلترا وألمانيا بالدرجة الأولى، فكانت الأخيرة أولى الدول الكبرى التي ستستأنف نشاطها ابتداءً من منتصف الشهر الحالي.
وفي ظلّ الإجراءات الصعبة والقاسية التي أقرّتها الحكومات في المرحلة التي تلت تفشّي «كورونا» في بلدانها، تبدو مسألة دفعها نحو حلولٍ لإطلاق اللعبة من جديد، بمثابة «جائزة الترضية» لشعوبها. أضف أن هذه الحكومات تعلم تماماً مدى أهمية كرة القدم عند شعوبها، ففي المجتمعات الأوروبية تُعتبر الرياضة الشعبية الأولى جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، ولا ينفصل الاهتمام بها عن ذاك الذي يخصّ المأكل والمشرب.
من هنا، تعلم هذه الحكومات أن الفرصة متاحة لكسب ودّ شعوبها مجدّداً، وذلك من خلال إعادة معشوقتهم إليهم، ولو بالحدّ الأدنى أي من دون فتح أبواب الملاعب التي تعدّ وجهتهم الأساسية في منتصف كلّ أسبوع أو نهايته.
كما أن سباق الحكومات في هذا الإطار لا ينفصل عن المنافسة الضمنية بينها لناحية تأكيد كلٍّ منها أن الخطة التي اعتمدتها لمكافحة الوباء المستجد كانت الأفضل، ولتسجّل بالتالي أمام الرأي العام نقطةً إيجابية حول قدراتها في التعامل مع الظروف المختلفة، وهو أمر انعكس أيضاً في أسواق البورصة أخيراً، حيث كانت الأسهم تصعد وتهبط بحسب عداد «كورونا» اليومي.
وانطلاقاً من أهمية الرأي العام عند هذه الحكومات، كان التصريح الأخير لوزير الخارجية البريطاني دومينيك راب في ما خصّ عودة الدوري الإنكليزي الممتاز (الأسبوع الماضي)، وهو تصريح حمل بعداً اجتماعياً، إذ كان واضحاً بقوله إن منح «البريميرليغ» الضوء الأخضر سيشكّل دفعةً معنوية للبلاد عامةً، في وقتٍ لا تزال فيه إنكلترا تعيش أسوأ ايامها بسبب التفشّي المرعب للفيروس في مدنها المختلفة.
كلامٌ تُرجم واقعاً في ألمانيا حيث كانت ردود الفعل تلتقي عند الانتصار في حربٍ ضروس ضد عدوٍ غير مرئي هذه المرّة. فلا شك في أن الألمان الذين اعتُبروا أمثولة في مكافحة الوباء الذي ضرب العالم، سجّلوا انتصاراً للبشرية ولإرادة الحياة على «كورونا» مع إعلانهم عودة بطولتَي الدرجتين الأولى والثانية، وهو قرار خرج من المستشارة أنجيلا ميركل، وترك ارتياحاً واسع النطاق في المقاطعات الألمانية الـ16، حيث تحوّل الخوف من الإصابة بالفيروس إلى أشبه باحتفالات بقرب نهايته، فكرة القدم هي أولى القطاعات التي تعود فعلياً إلى الحياة بعد إغلاق كل شيء في البلاد.
عودة الكرة تدخل ضمن منافسة الحكومات حول الاستراتيجية الصحّية الأفضل


وفي هذه الخطوة أيضاً تطال الأبعاد الاقتصادية، والتي تعدّ من الأسباب الأساسية التي نظرت إليها الحكومات ودفعتها طبعاً إلى محاولة إيجاد الحلول، إذ مخطئ من يعتقد بأن الكرويين كانوا وحدهم الراغبين بالعودة إلى المستطيل الأخضر. وهنا الكلام عن أهمية الكرة في تحريك الركود الاقتصادي ـ التجاري الحاصل، والذي سيأخذ شكلاً جديداً لناحية الأرباح كون محبي المستديرة هذه المرّة سيلازمون منازلهم لمتابعة المباريات عبر شاشات التلفزة. وهذه المسألة تحديداً سترفع من قيمة سوق الإعلانات التلفزيونية، وتغذي طبعاً الخزائن المالية للقنوات الناقلة للمباريات، والتي سيشترك في خدماتها الراغبون بمشاهدتها.
وعن المباريات وقيمتها المالية والعقود الموقّعة كان الحديث الرئيس خلال السعي للعودة، فقسم كبير من الأندية الألمانية مثلاً واجه شبح الإفلاس، وكان السبب المالي وراء طلب العودة إلى الملاعب رغم خطورة الوضع، إذ أن أندية ألمانيا كانت ستخسر ما يقارب الـ300 مليون يورو من عقود النقل التلفزيوني لولا القرار الأخير الذي أنقذها.
وبما أن نجاح كرة القدم من خلال أنديتها ومنتخباتها خارجياً، يُحسب أيضاً من إنجازات البلاد، وتتغنى به الحكومات ورجال السياسة الذين يتقاطرون إلى الملاعب للظهور أمام الرأي العام بمظهر المساندين للوطن، عرفت هذه الحكومات أن استمرار الجمود سيؤثّر لاحقاً على حظوظ الفرق والمنتخبات في الاستحقاقات الكبيرة.
وهذه النقطة تحديداً هي التي شغلت بال الاتحادات الوطنية بالدرجة الأولى، إذ أن توقف النشاط يعني توقف التطوّر، ويعني توقف الإنتاج في ما خصّ المواهب، ويعني أيضاً انخفاضاً في المستوى الفني، وهو أمر غير مستحب، خصوصاً أن السنة المقبلة يُفترض أن تحمل بطولة كبرى وهي كأس أوروبا التي تمّ تأجيلها بسبب انتشار الوباء في القارة.
لذا فإنّ الحسابات الفنية تبدو حاضرة هنا، فمن يسبق ويعود للعب الكرة، سيسجّل خطوة متقدّمة على خصومه، والدليل أنه ما إن تحرّك الألمان لإعادة «البوندسليغا»، وما إن بدأ الإسبان الضغط على الحكومة لعودة «الليغا»، تجرأت إيطاليا وعادت لتتحدث عن كرة القدم وإمكانية عودة الـ«سيري أ» رغم استحالة الأمر في المدى القريب بالنظر إلى حجم المصيبة التي تعيشها البلاد.
إذاً هي اللعبة الأحب إلى القلوب، ستعيد الروح والفرح إلى المجتمعات، وتترك أملاً بغدٍ رياضي أفضل، وبحياة سليمة وخالية من الأمراض الفتّاكة.