يعرف الجميع مدى حجم الخسائر التي تكبّدتها كرة القدم بعد تفشي وباء «كورونا» حول العالم. هي مسألة لمسها الكل، فبادر رأس الهرم أي الاتحاد الدولي للعبة إلى إقرار تسريع عملية توزيع الأموال على الاتحادات الوطنية الأعضاء بهدف مساعدة المجتمع الكروي لتخطي الأزمة.«الفيفا» اعتاد طبعاً على مدّ أعضائه بالمال من مبدأ توزيع مبالغ معيّنة عليهم سنويّاً، وما خطوته التسريعية إلا اعتراف منه بأن المال الموجود بحوزته هو ملك اللعبة لا ملكه الخاص، فالأرباح التي جناها من هنا وهناك يفترض أن تصبّ في صناديق الاتحادات الوطنية حول العالم.
في لبنان الأندية هي الأعضاء في الاتحاد المحلي، لكن طبعاً الأخير ليس قادراً على انتشالها من الأزمة المالية المتوقّع أن تترك أثرها السلبي عليها جميعها لمواسم عدة. هي الأندية التي تعاني أصلاً منذ زمنٍ بعيد من الخضّات المالية، وهو الاتحاد المتروك غالباً من دون دعمٍ كبير من القيّمين على البلاد، الذين تركوه من باب عدم الاكتراث للرياضة التي لا تُعدّ ضمن الأولويات بالنسبة إليهم.
لا تلام الإدارات المتعاقبة هنا لوحدها، لعدم قدرتها على الانتصار لنفسها أو إيجاد الحلول الناجعة، بل يلام الجميع أي كل فردٍ ونادٍ ومتموّلٍ وإعلامي عملوا في مجال اللعبة، فالواضح أن كرة القدم في لبنان تسير منذ زمنٍ بعيد وفق نمطٍ معيّن لا يمكن قطعاً أن يدرّ عليها الأموال، وخصوصاً في ظل اعتماد الأندية على الهبات أو أصحاب الكرم أو المتموّلين، وذلك من دون أي خطةٍ مالية واضحة تعيد إليها مردوداً جراء استثمارها أو أي شيءٍ من هذا القبيل.
لذا جاء التوقف القسري للنشاط ليكشف هشاشة الوضع العام، ووضع المتعاطين في الشأن الكروي، حيث سقطت كلمة الاحتراف بالضربة القاضية، وباتت العقود التي سُميت عقوداً احترافية مجرد حبرٍ على ورق، فالأندية التي لم تعتمد غالبيتها «المبدأ العالمي» بحسم جزء من الرواتب أيضاً، لم تستطع مساعدة اللاعبين بل عمدت إلى تجميد رواتبهم نهائياً.

الضحايا الدائمون
أمرٌ غير مستغرب بالنسبة إلى المتابعين عن كثب لواقع اللعبة والعالمين بخباياها، إذ غالباً ما صرخ اللاعب اللبناني مطالباً بالرأفة والرحمة وبالتزام ناديه باتفاقه معه. هي قصة «شحادة» في بعض الحالات، وقصة معاناة لا تشبه أبداً ما عرفته الكرة الأوروبية أخيراً، حيث كان هناك قبول من اللاعبين لمسألة حسم الرواتب رغم أنهم يعلمون تماماً بأنه ليس هناك أي أحدٍ قادر على إجبارهم على ذلك بفعل القانون الذي يحميهم، والدليل أن الأندية ذهبت إلى التفاوض معهم والحصول على الضوء الأخضر منهم للقيام بعملية الحسم.
من هنا، يفرض الواقع العام بعد «كورونا» ثورةً على الأسس أجمع أي تلك التي أرساها الكل وانغمسوا فيها، وذلك من أجل رسم طريقٍ واضح وهيكلية أوضح، ما يخدم المصلحة العامة، ويريح الاتحاد من المشاكل، والأندية من الأعباء، واللاعبين من الهموم.
ثورة جماعية لاستغلال فرصة قد تكون الأخيرة للانطلاق من النقطة الصفر نحو القمة


هؤلاء بلا شكّ هم الضحية الدائمة، وقد علموا اليوم أنّ في لبنان ليست هناك ضمانات لأحد مهما علا شأن النجم، والفوتبول هو مجرد «سندة» للغالبية الساحقة منهم، لا مصدر رزق أساسي ودائم. أليس هذا الأمر الذي صارحت به أندية لاعبين عديدين في صفوفها في الآونة الاخيرة، وجاهرت به في العلن؟
طبعاً هذا ما حصل، وهو أمر يسيء إلى صورة كرة القدم قبل أي شيءٍ آخر، لأن في هذا الكلام اعترافاً بأن هذه اللعبة غير مثمرة والتضحيات التي يقدّمها اللاعب فيها لا تجدي نفعاً، وبالتالي سيدفع هذا التسويق المسيء الجيل الصاعد والهاوي للكرة إلى عدم التفكير في ممارستها أو مواصلة المشوار فيها، ما يقلّص من دائرة اكتشاف المواهب وتعزيز الوضع الفني العام.
وبين رمي المسؤولية على «ثورة 17 تشرين»، ثم على الوضع الصحي، وبينهما الوضع الفردي الصعب لهذا المموّل أو ذاك، يُطرح سؤال إذا ما كان اللاعبون والمدربون سيذهبون في الفترة المقبلة لخلق كيان مثل جمعية أو رابطة لتحصيل حقوقهم أو حمايتها، وذلك كما هو الحال في كل بلدان العالم التي ورغم النظام الاحترافي فيها، عرف أركان اللعبة من مدربين ولاعبين كيفية حماية حقوقهم، لا كما هو الحال الآن حيث يذهبون للاعتماد على المبادرات الفردية أو يجدون أنفسهم محرجين في ظل مطالبة أنديةٍ بمساعدات من الجهات الحكومية بشكلٍ صوّرت فيه اللاعب بصورةٍ لا تليق به.

باتت العقود التي سُميت عقوداً احترافية مجرد حبرٍ على ورق

إذاً نحن في لبنان نحترف هواية مع سقوط العقود الاحترافية واحداً تلو الآخر، والدليل عدد الشكاوى التي تقدّم بها لاعبون ضد أنديتهم، ما زاد من سواد الصورة التي ظهّرت كرة القدم بأنها ليست وسيلة للعيش، وما سيقلّص حتماً من عدد اللاعبين في البلاد، والذين قد يتجهون إلى رياضات أفضل بـأحسن حال، وما سيخفض أيضاً من مستوى الطموحات لبلوغ أهداف أعلى والتأهل إلى أحداثٍ كبرى.
الأندية هي الأخرى مطالبة بالثورة على ذاتها ومفاهيمها وطريقة عملها الكلاسيكية، إذ أن العمل الاحترافي في الإدارة يفترض أن يسبق العمل الميداني لناحية توقيع «عقود احتراف» مع اللاعبين. لذا فإن وضع ميزانيات محدّدة في وقت سابق أو قبل انطلاق الموسم، بات أمراً ملحاً، وذلك لتفادي أي حالة اضطراب مالية، بدت دائمة لدى أندية عدة عانت من خضات وفترات صعود وهبوط حتى خلال الموسم، فيأتي السؤال كيف هو حالها في ظل وجود أزمة كالأزمة الراهنة أو تلك التي ستليها من مصاعب اقتصادية مرتقبة؟

سيناريوهان في الأفق
في مقاربةٍ لهذين الطرحين، يتفق إداريون على أن قيمة اللاعبين ستصل إلى مستوى لم تشهده فترة التسعينيات على صعيد الاتفاقات المقبلة لناحية حجم الرواتب. وهذا الأمر يعني أن هناك سيناريوهين قد تشهدهما الفترة المقبلة.
الأول هو الأخطر بالنسبة إلى اللاعبين الذين لا يدركون حتى الآن أنهم الحلقة الأقوى في اللعبة، فغالبية الأندية ستذهب للملمة نفسها ولاستدعاء اللاعب الذي كان يعاني سابقاً ولا يزال في هذه الظروف المتعبة. وهذه الأندية تعلم تماماً أن هذا اللاعب ليس لديه خيار سوى العيش على وعد الحصول على ما فاته، والقبول بما سيُعرض عليه لأن الغالبية الساحقة لن تهجر اللعبة وستعيش على أمل أن تستفيق على غدٍ أفضل.

أما السيناريو الثاني فقد يكون في يد اللاعبين والمدربين انطلاقاً من معرفتهم لقيمتهم كونهم قلب اللعبة وأساسها، ما يعني أن خلق هيئة تضمّهم إلى جانب أصحاب خبرة أو دوليين ومدربين سابقين، وربما إعلاميين مشهود لهم في العمل التطويري، أضحى مسألة مطلوبة بقوة كونها ستدفع نحو الضغط عبر كل القنوات المتاحة لتحسين وضع الأندية وكل الناشطين في اللعبة، فالقانون المتفق عليه سيحمي الجميع، وسيضمن الحقوق للاعب والواجبات عليه، ويحفظ مصالح الأندية ويمكّن الاتحاد من تسيير اللعبة بعيداً من أوجاع الرأس.
باختصار، الكلام هنا لا يرتبط بأرقام العقود أو يطالب بتضخيمها بل يرمي إلى ضرورة رفع المستوى المنهجي وطريقة التعامل الإداري تجاه اللاعبين والمدربين من قبل الأندية، وطبعاً رفع المستوى التنظيمي الاتحادي لناحية الحرص على تطبيق القوانين التي تتماشى مع وضع اللعبة الاستثنائي في لبنان وخصوصاً في المرحلة المقبلة. وهذه المسألة بالتأكيد لا تحتاج إلى المال، بل إن حبكها بالشكل المناسب سيخرج اللعبة بصورة حسنة تدرّ عليها الأموال لاحقاً.
وبالحديث عن عنصر المال، الذي يحكم اللعبة والأندية في لبنان قبل أي تفصيلٍ آخر، فإن الخطأ الذي تقع فيه الأندية ويدفع ثمنه اللاعب أو المدرب أو الإداري الموظّف لاحقاً، هو في الاعتماد على مصدرٍ تمويلي أوحد يُختصر غالباً بشخصٍ دون سواه، ما يُبقي النادي بالتالي تحت رحمة هذا الشخص أو مزاجيته، أو ربما وضعه الاقتصادي.
يُطرح سؤال إذا ما كان اللاعبون والمدربون سيذهبون لخلق كيان مثل جمعية أو رابطة لتحصيل حقوقهم أو حمايتها؟


ولا يرمي هذا الكلام أيضاً إلى لوم أي مموّل، بل إنه وفي هذا الإطار لا يخفى أن كل واحدٍ من هؤلاء المتموّلين، وقبل دخوله إلى اللعبة، يعرف الخبايا والمشاكل التي تنتظره، لذا بدلاً من هجر اللعبة يفترض أن يعمل على ترتيب بيته الداخلي لناحية إجبار كوادره على احترام التزاماتهم لكي يكون قادراً على الإيفاء بالتزاماته. وهنا تطلّ مسألة الاحتراف الإداري مرّة جديدة، وهي المسألة التي يُطلب من الاتحاد وضع أطر لها لناحية إجبار الأندية على تطبيقها على غرار ما فعل الاتحاد الآسيوي، ما سيفرز الكثير من الإيجابيات لناحية حماية مصالح اللاعبين والمدربين مثلاً، ولناحية حماية استثمارات المموّلين وعدم ظلم من يعمل بجدّ وجهد منهم ويصرف المال الكثير. هو أمر أيضاً سيشجع المزيد من رؤوس الأموال للدخول إلى اللعبة، إذ أن ظهور الجديّة ووجود أطر تحمي الاستثمار، سيشجعان الكثيرين على ركوب الموجة، وهو ما سينعش اللعبة عامةً.
ببساطة المشكلة هي في غياب التخطيط المسبق والتنفيذ الجديّ والتفكير في الاحتمالات المستقبلية لناحية ظهور ظروف طارئة كما هو الحال الآن. لذا فإن ثورةً عامة مطلوبة على مختلف الأصعدة الإدارية والفنية والإعلامية. هي ثورة ليست موجّهة ضد أحد بل يشارك الكل فيها نصرةً للعبة الأحبّ إلى قلوب الجميع، واستغلال الفرصة التي قد تكون ربما الأخيرة للانطلاق من النقطة الصفر نحو القمة المرجوّة دائماً.



30 عاماً والمصاعب نفسها
فتح نافذة على المستقبل يتطلب التوقّف عند رأي من اختبر كرة القدم اللبنانية من نواحٍ عدة، منها الفني كلاعب، ومنها المدرب، ومنها الإداري أو الإعلامي.
قائد فريق الحكمة السابق وسام خليل يجمع ثلاثاً من هذه الصفات، فيستعرض رأيه في ما خصّ العناوين العريضة لأزمات اللعبة وللمشاكل المرتقبة، فيقول: «لو ارتبطت الكرة اللبنانية بالقطاع الخاص والدورة الاقتصادية في البلاد لما وصلنا إلى مرحلةٍ صعبة جداً كهذه». ويتابع: «يتهرّب كثيرون من مسؤولياتهم ويتلطّون بالوضع الاقتصادي، بينما المشكلة فيهم أصلاً لأنهم لجأوا إلى البحث عن مصادر تمويل غير مضمونة».
ويعقّب المدرب والإداري الذي عمل مع أندية مختلفة وعاصر مدربين أجانب مهمين مرّوا على اللعبة في لبنان: «عندما يأتينا الخبراء الأجانب من مدربين أو محاضرين وغيرهم، ويعرضون علينا حلولاً للنهوض، نكتفي بالاستماع إليهم والموافقة بهزّ الرأس إيجاباً، ثم نمضي في أخطائنا من دون الاستفادة من التطوير المقتَرَح، بل يعمل البعض إلى إقالة من يعرف أكثر منه ويكمل السير في الاتجاه الخاطئ».
ويختم: «هل رأينا أي عائلة في لبنان ومهما كان حجم فقرها، تنصّل المسؤول عنها من مسؤولياته؟ للأسف هذا الأمر حصل في رياضتنا اللبنانية بسبب تخفّي الكثير من الإداريين خلف الوباء من دون أي سؤال أو اطمئنان عن أفراد عائلتهم، وكأنّ العدوى تنتقل من خلال المكالمات الهاتفية».


الدقة يرفع الصوت


اسمٌ آخر عاصر اللعبة لمدة 28 عاماً لاعباً ومدرباً وإعلامياً، وقد اختصر المدرب محمد الدقة المشهد الصعب بكلمات كتبها عبر صفحته على «فايسبوك»، وتترك قناعةً حول ضرورة إطلاق ثورة على الواقع المرير، فجاء في أبرز ما قاله:
«على مدى 30 عاماً، ما هي إنجازات كرة القدم اللبنانية؟ 30 عاماً مليئة بالخيبات والفشل والإخفاقات. أين هم نجوم اللعبة في لبنان؟ ما هي ثرواتهم؟ فقراء. لماذا لا نؤسّس نقابة للمدربين المحليين عبر الاتحاد؟ لماذا لا توجد نقابة للاعبين برعاية اتحادية؟ أين الإعلام الرياضي اليوم من الأمس في رفع الصوت والمحاسبة ولو بالكلمة البنّاءة أم أنه تحول بمعظمه إلى زقّيف هدفه بطاقة؟!
ألم تفرض الأزمة الاقتصادية والصحية واقعاً جديداً على البلد واللعبة؟ لماذا لا نبدأ من الصفر لنبني لعبة كرة قدم على أسس جديدة تناسب الظروف الحاصلة؟
...علينا أن نبني أسساً متينة نقنع بها الملايين من عشاق اللعبة لنخاطب الدولة من منطلق قوي وعندها ستجدون الدولة مضطرة للقيام بواجباتها.
الاتحاد وحده لا يفعل شيئاً، ولكن الاتحاد هو «أمّ الصبي»، وعليه يقع عاتق إطلاق مؤتمر أو ورشة عمل كبيرة بمشاركة الأندية والمدربين واللاعبين والإعلام تحت نظر الجمهور الكبير. اللعبة بحاجة إلى قرارات جديدة جريئة تدفعها للتطور وفي ذلك مصلحة للأندية والاتحاد واللاعبين.
علينا أن نبدأ كي لا نُضيع 30 عاماً أخرى هباءً منثوراً. لعلها فرصة واقع جديد، فلنتلقّفها».