من مطار بيروت الدولي إلى مقر إحدى السفارات في لبنان، كانت الدهشة حاضرة على وجه إحدى الدبلوماسيات التي زارت لبنان للمرة الأولى. ففي طرقٍ فرعية، تفادياً لزحمة السير، رأت أعلام بلادها منتشرة بين الأزقة وشرفات المنازل، اعتقدت للوهلة الأولى بأن استقبالاً تمّ إعداده لها على خلفية زيارتها، لتكتشف لاحقاً عبر سائق السيارة والمرافق بأن الموضوع لا يتخطى مسألة تشجيع اللبنانيين لمنتخب بلادها في كأس العالم. القصة ليست جديدة، فهي تعود الى أربع سنوات خلت، لكنها تأتي لتعكس فعلاً صورة حول مدى تعلّق اللبنانيين بالحدث الكبير، إذ يتركون انقساماتهم الداخلية ويحوّلونها الى انقسامات خارجية، لكنها كروية بحتة، فالتبعية الأولى في هذا الإطار هي للمنتخب الذي كسب عاطفة هذا المشجع أو ذاك، ولو أن بعضهم يخرج في تعاطفه مع المنتخب الأحب الى قلبه عن الإطار الرياضي، لتتعدد هنا الأسباب وتختلف التفاصيل. من هنا، يبدو قرار محافظ مدينة بيروت، بالنسبة إلى اللبنانيين، قراراً عجيباً. لم يأخذوه على محمل الجد، والأسباب كثيرة.
حبّ الشعور بالفوز
السبب الأول والأخير لانغماس اللبنانيين (حتى غير المحبين للكرة منهم) بالمونديال ينقسم الى شقّين، بحسب ما يمكن لمسه في الكلام مع عيّنة منهم لا بأس بها. الشق الأول هو اجتماعي صرف ويرتبط بسعي دائمٍ الى التعاطف مع ما هو قوي أو ناجح، أو إذا صح التعبير يعطي ذاك الشعور بالتفوّق، وهو ما يسعى إليه أولئك الذين لا يهوون كرة القدم ولا يتابعونها موسمياً، لكنهم يركبون موجة «الموضة المونديالية» ويأخذون طرفاً، متطلعين الى احتفالٍ هنا وسببٍ للحديث عن خيارٍ ناجح أو فوزٍ هناك. أما الشق الثاني، فهو يرتبط بالكرويين الحقيقيين، والذين يختارون بغالبيتهم المنتخبات القوية وهم متعطشون الى لذّة الانتصارات، وذلك لملء فراغٍ يشعرون به منذ زمنٍ بعيد ويرتبط بعدم قدرة لبنان على التأهل ولو لمرة واحدة الى أكبر تظاهرة كروية، فيعوّضون بالتالي هذا الأمر من خلال تشجيعهم لمنتخبات عالمية. كذلك، هناك فرعٌ ثالث يبحث عن نصرٍ من نوعٍ آخر، وهي الفئة المنغمسة بالقومية العربية، والتي تذهب الى البحث عن انتصاراتٍ نادرة وتفوّقٍ للعرب على الغرب في مجال الكرة، وبشكلٍ لا يمكن أن يحصل في ميادين أخرى، فيذهب هؤلاء الى الاصطفاف خلف المنتخبات العربية، آملين أن تصل الى ما عجز العرب عن الوصول إليه في مجالاتٍ أخرى.

المشجع ابن بيئته
وفي هذا الإطار أيضاً، تترك آراء كثيرة اقتناعاً بأن المشجع اللبناني لمنتخبات المونديال بمختلف جنسياتها هو ابن بيئته بالدرجة الأولى. وعلى هامش التجمّع الأخير لرابطة مشجعي ريال مدريد في وسط بيروت لمتابعة المباراة النهائية لدوري أبطال أوروبا، يمكن لمس مدى التنوّع في الآراء والأسباب التي تدفع الى اتباع أهواء معيّنة في التعاطف مع منتخباتٍ معيّنة. سالم، وهو مشجعٌ للمنتخب البرازيلي، لا يخفي أنه في مونديال روسيا اختار منتخباً رديفاً لـ«حبّه الأول» كما يسميه أي منتخب البرازيل، إذ إنه سيشجع السعودية أيضاً. أما السبب فيختصره: «نشأت في الرياض، حيث لا يزال والدي يعمل حالياً. أشعر بأن تشجيعي للأخضر فيه جزء من ردّ الجميل لبلدٍ عشت فيه لفترة غير قصيرة». إذاً، هو تشجيع يرتبط بناحية عاطفية الى حدٍّ كبير، وهي مسألة أيضاً وُجدت على لسان حيدر، الذي لا يمكن لأي منتخبٍ أن ينتزع حبّه للمنتخب الإيراني. هو يعود الى مونديال 1998 ليتغنى بذاك الفوز التاريخي لإيران على الولايات المتحدة، ويقول بأن تلك اللحظة هي من اللحظات الأجمل مذ بدأ يتابع كرة القدم، ولو أنه فرح كثيراً في مناسبات عدة لانتصارات فريقه المفضل برشلونة الإسباني خلال فترته الذهبية. أما عند سؤاله عن المنتخب الأول الذي يشجعه، فيجيب: «منتخب إيران الذي لا رديف له حتى، فلا يمكن أن أنسى مدى ارتباط شعبينا ومدى دعم الجمهورية الإسلامية للبنان في مختلف المجالات، ومدى احتضانها لقضايانا وتأثيرها في جعل مناطقنا أفضل».
الفتى الجنوبي يُظهر بشكلٍ واضح مدى تأثره بالمحيط الذي نشأ فيه، إلى درجةٍ انعكس فيها هذا الأمر على أهوائه الكروية، وهي مسألة تشمل أيضاً أولئك الذين نشأوا في بلدانٍ أوروبية أو لهم أقارب فيها، وهي نقطة يمكن لمسها من حديث صديقٍ لحيدر، يدعى مصطفى، فهو يشجع ألمانيا لسببٍ بسيط يشرحه في قصة قصيرة. الشاب الثلاثيني يحكي عن طفولته عندما هاجرت عائلته الى ألمانيا هرباً من الحرب المشؤومة، وهناك تمّت مساعدتهم للجوء الى البلاد، حيث استقر أقارب لهم أيضاً، فبات الارتباط مع ألمانيا كبيراً، وهو يعقّب على هذه المسألة فيعطي مثلاً مبسّطاً بقوله: «هل سألت يوماً لماذا منتخب ألمانيا هو الأكثر شعبية في الضاحية الجنوبية؟ ببساطة، بسبب حجم العائلات المرتبطة بمنطقتنا والتي لا تزال تعيش في بلاد الألمان حتى اليوم».

أتباع لحظات المجد
وبين تجمّع ساحة الشهداء وأحد مقاهي سوق الروشة، تكتشف أسباباً أخرى لحبّ هذا المنتخب أو ذاك. ففي إحدى فترات بعد الظهر ليوم أحدٍ مشمس، يجلس شبان حول طاولة لامست الطريق العام أمام مقهى تظلّله أعلام الدول المشاركة في المونديال. الطبق الأساسي في حديثهم هو المونديال الذي يكشف مدى تطرف كل واحدٍ منهم لمنتخبه المفضل. تسأل أحدهم ويدعى أحمد عن سبب استبساله في الدفاع عن الألمان، فلا يعطيك إجابة واضحة. لكن بما أن هذا الشاب وُلد في عام 1980 يمكن أن تستشف من كلامه بأن أوّل استفاقته الكروية كانت عند فوز «المانشافت» بمونديال 1990، وخصوصاً عندما يستذكر تلك الأيام التي كان ينتزع فيها بطارية السيارة الخاصة بوالده من أجل تشغيل جهاز التلفاز لمتابعة المباريات في ظل انقطاع التيار الكهربائي.
أما الحديث مع شابٍ يصغره بعشر سنوات، فلا بدّ أن يأخذك الى اقتناع تام بأن قسماً كبيراً من مشجعي الفوتبول ومنتخباته هم أبناء لحظات المجد، ولهذا السبب شجّع سمير (27 عاماً) منتخب البرازيل الذي جعله يعرف «معنى طعم كرة القدم» على حدّ تعبيره عند إحرازه اللقب عام 2002. هو يحكي بشغفٍ عن رونالدو وينتظر من نيمار أن يسير على خطاه، ويرفض في الوقت ذاته فكرة أنه أحبّ البرازيل بسبب الانتصار المذكور قبل 16 عاماً، بل يقول إنه ورث حب «السيليساو» عن والده الذي شجّعه منذ السبعينيات، ما يعيدنا الى نفس الصورة، لكن بألوانٍ قديمة، ففترة السبعينيات مع بيليه كانت مجيدة، حيث أسر «الملك» العالم بسحره وجمع أتباعاً له ولمنتخبه حول العالم. هي أسباب كلاسيكية تجدها عند الجيل الجديد على نطاقٍ واسع في حبّهم لمنتخبات مثل إسبانيا والبرتغال التي سجّلت حضورها على اللوائح الذهبية للألقاب في الألفية الجديدة. كما تجدها في تعلّقهم بأنديةٍ مثل برشلونة وتشلسي التي أيضاً عرفت أمجاداً مختلفة في الفترة نفسها، فتجمهر كثيرون حولها انطلاقاً من إعجابهم بأدائها وتأثرهم بنجاحاتها. وحتى تأهل لبنان للمرة الأولى في تاريخه الى نهائيات كأس العالم، تبقى أهواء شعبه منقسمة ومرتبطة بالخارج، تماماً كما هو ارتباط القسم الأكبر من اللبنانيين بقضايا خارج حدود البلاد، التي تستجدي أحياناً وطنية مفقودة في مجالات عدة، ليس أحد أبرز أوجهها إلا ذلك القرار الشهير، بمنع رفع أعلام المنتخبات المشاركة في المونديال!


الحاج حمود: الـ 7 – 1 أسوأ ذكريات المونديال


هناك ارتباط وثيق بين الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 ومسابقات كأس العالم بالنسبة إلى المدرب الوطني محمود حمود. ففي هذا العام، كانت بداية حمود مع مشاهدة كأس العالم، حيث يتذكر المباريات التي كان يتابعها «تحت القصف والصواريخ» حين بدأ حبّه لمنتخب البرازيل الذي يعتبره الحاج حمود أفضل منتخب مرّ في تاريخ البرازيل، وهو الذي شارك في مونديال 1982.
بالنسبة إليه سيكون المنتخب الإسباني الأوفر حظاً لإحراز لقب مونديال 2018 في روسيا نظراً الى ما يمتلكه من لاعبين جيّدين. ففريقا ريال مدريد وبرشلونة يشكلان رافعة للمنتخب الإسباني الذي كان يمتلك سبعة لاعبين من برشلونة عام 2010 حين أحرز اللقب بعدما انتقلت منظومة المدرب غوارديولا من برشلونة الى المنتخب. ويتوقع حمود أن ينقلوا المنظومة التي يلعبون فيها في الدوري الإسباني الى المنتخب. لكن المدرب اللبناني لا يقلل من حظوظ منتخبي البرازيل وألمانيا، دون استبعاد الأرجنتين أيضاً.
حين تعود معه الى الوراء حول أفضل اللاعبين الذين شاهدهم في المونديالات التسعة التي شاهدها، يجيبك «رونالدو البرازيلي وزين الدين زيدان الفرنسي». أما بالنسبة إلى أجمل المونديالات فهو عام 1982، فيما كان مونديال 2014 هو الأسوأ بالنسبة إلى المدرب محمود حمود. ففيه يتذكر المدرب الوطني أسوأ لحظة عاشها منذ عام 1982 حين شاهد منتخب البرازيل يخسر أمام الأمان 1 – 7 في نصف النهائي على أرضهم، وأمام جمهورهم. «تلك لحظة لن أنساها مدى الحياة، مثلها مثل لحظة إحراز البرازيل للقب مونديال 2002 حين رفع رونالدو كأس العالم، لكن هذه هي اللحظة الأجمل على صعيد المونديال».


محمد الدقة: مونديال 86 هو الأجمل


رغم تشجيعه لمنتخب الأرجنتين إلا أن المدرب الوطني محمد الدقة يعتبر أن البرازيل هي المرشّحة الأولى لإحراز لقب كأس العالم 2018 في روسيا، يليها منتخبا إسبانيا وألمانيا. فبالنسبة إلى مساعد مدرب منتخب لبنان، فإن البرازيل حققت نقلة نوعية مع مدربها تيتي الذي نجح في تخفيض معدّل الأعمار وخلق توليفة جديدة خلال الفترة التي تسلم فيها تدريب منتخب «السامبا».
خلال حديثك مع الكابتن الدقة، تشعر بأن مسابقات كأس العالم وذكرياتها تدور حول اللاعب العبقري الأرجنتيني مارادونا. فمنذ عام 1986 أول مونديال للدقة كمشاهد حين كان يبلغ من العمر عشر سنوات، بدأت قصة عشقه للمنتخب الأرجنتيني. «ما حققه مارادونا عام 1986 كان رائعاً، وفوز الأرجنتين باللقب كان مفاجأة».
يأخذ الحديث مع المدرب الدقة عن مارادونا قسماً كبيراً من الدردشة المونديالية السريعة. يتحدث الدقة بإعجاب عن «المعجزة الأرجنتينية» الذي جاء من بيئة فقيرة ومسيرة حياة بدأت بظلم، وانتهت بظلم مارادونا لنفسه.
«ما صنعه مارادونا مع منتخب الأرجنيتن وفريق نابولي لا يصدّق. لكن حين فاز مارادونا على الطليان في مونديال 1990، تدخلت المافيا الإيطالية وخرّبت حياته. وهذا أمرٌ يسجل لمارادونا الذي رفض أن يبيع بلاده لمصلحة الطليان».
ويتحدث المدرب اللبناني عن تركيبة مارادونا البدنية «هو لاعب عبقري بكتلة عضلات أدهشت العالم. فلم يكن هناك تفسير لهذا التجانس بين عضلاته وقصر قامته وسرعته، فهو أكثر اللاعبين الذين كانوا يتعرضون للضرب، ورغم ذلك لم يكن يقع بسهولة. هو حالة بحد ذاتها، حالة مثيرة للجدل تعتبر أن لمسة اليد التي قام بها أمام إنكلترا هي يد الله، وأن سيناريو فوز الأرجنتين على الإنكليز هو انتقام لحرب على جزر الفوكلاند!».
بالنسبة إلى الدقة، يعتبر مونديال 1986 هو الأجمل، أما مونديال 2014 فهو الأسوأ مع غياب المستويات الجيدة. «فحين يكون مستوى الأرجنتين والبرازيل متوسطاً، لا يكون هناك مونديال جميل».


مالك حسون: أرجنتيني للدم


«أرجنتيني للدم»، يجيبك المدرب اللبناني مالك حسون حين تسأله عن المنتخب الذي يشجّعه عالمياً. لكن في مونديال 2018 في روسيا، فإن منتخب ألمانيا هو مرشحه الأول لإحراز اللقب. «الألمان اشتغلوا صح من سنة 2000. حينها أحضروا مدربين ودفعوا أموالاً طائلة على الفئات العمرية الذين تدرجوا فيها حتى أصبح لديهم منتخب قوي ويتمتع بشخصية وحضور هو الأقوى».
بالنسبة الى منتخب البرازيل، فالأمر يتوقف عند نيمار وعودته من الإصابة. «فإذا كان حاضراً مع منتخب السامبا، فإن الأمور ستكون مختلفة. أما في حال غيابه، وخصوصاً مع غياب ألفيش، فإن المنتخب البرازيلي سيتأثر بشكل كبير. هذا لا يعني أنه لن يكون منافساً. فما حققه خلال التصفيات أمر لافت بأن يتأهل الى المونديال من دون خسارة، وهذا مرده الى الشخصية القوية التي يتمتع بها المنتخب البرازيلي».
المنتخب الثالث المنافس برأي الكابتن مالك هو منتخب الأرجنتين. فمونديال 2018 هو الأخير للنجم الأرجنتيني ليونيل ميسي، بالإضافة الى مجموعة من زملائه، وبالتالي سيسعون الى إحراز اللقب. فبالنسبة إلى ميسي، لا يزال لقب كأس العالم هو الوحيد الغائب عن سجلاته «ومهما فعل أي لاعب وحقق ألقاباً، يبقى الأمر منقوصاً إذا لم يحرز لقب كأس العالم. ومع مشاركة أغويرو وديبالا ووضع system صحيح، باستطاعة الأرجنتين إحراز اللقب».
مشوار الكابتن مالك مع بطولات كأس العالم كان عام 1986 حينها أحرزت الأرجنتين اللقب، وحينها بدأ حب حسون للمنتخب الأرجنتيني. وهذا المونديال هو الأجمل للمدرب اللبناني بعكس مونديال 2002 في كوريا الجنوبية واليابان الذي يعتبره الأسوأ على صعيد المستوى.
يفاجئك حين يجيب عن أجمل لحظة شاهدها في المونديالات التي تابعها. «لحظة تسجيل مارادونا الهدف بيده. لعبة كرة القدم هي لعبة أخطاء، وهي مسموحة وتزيد من جمالية اللعبة».
اما اللحظة الأسوأ، فكانت حين خسر منتخب البرازيل 1 – 7 أمام ألمانيا في المونديال الماضي «من الصعب أن تشاهد منتخباً بهذه العظمة يخسر بهذه الطريقة».
نجوم عدة شاهدها الكابتن مالك منذ عام 1986، لكن يبقى الأفضل بالنسبة اليه مارادونا وزين الدين زيدان ورونالدو البرازيلي.