ركّز العالم كثيراً على فشل إيطاليا في التأهل إلى نهائيات كأس العالم 2018، لكن هذا التركيز ليس سببه أنهم نسَوا فشل هولندا أيضاً بل لأن الانطباع المشترك عند كثيرٍ من متابعي اللعبة هو أن المسألة باتت عادية، فهي ليست المرة الأولى التي تكون فيها البلاد المنخفضة في أدنى مستواياتها الكروية، لتقف بالتالي متفرجة على الأحداث العالمية. في هذه الأيام منتخب هولندا مثله مثل أي منتخبٍ آخر من منتخبات الصف الثاني في أوروبا. هو مثل بلغاريا والمجر والنمسا وتشيكيا وغيرها. هذا الكلام ذُكر على لسان الكثير من الخبراء والمتابعين، الذين لم يحترموا الأسماء المهمة التي يجمعها المنتخب البرتقالي، فالأمر ليس مهماً طالما أنه لا يستطيع تحقيق المطلوب والتأهل الى المونديال. لكن بطبيعة الحال ما حصل هو صدمة، إذ إن هولندا حلّت ثالثة في المونديال الماضي، ووصيفة في المونديال الذي سبقه، ليبدأ الكلام عن مشكلات جمّة تعانيها الكرة في بلاد العظيم يوهان كرويف، تبدأ من ندرة المدربين الجيدين وتمرّ بفترة جفاف على صعيد المواهب وتصل إلى دوري لا يرتقي الى مستوى البطولات الوطنية الكبرى في القارة العجوز.
مدرب فاشل ولاعبون عاديون
لم تعرف هولندا من أين تأتيها الهزائم خلال التصفيات المؤهلة إلى المونديال: سقطتان ذهاباً وإياباً أمام تشيكيا، وأخرى أمام ايسلندا وأيضاً أمام تركيا، لينتهي المطاف بـ «الأورانجي» في المركز الرابع في مجموعته!
هذه النتائج هي نتيجة تبعات أزمة عرفتها هولندا منذ سنوات طويلة، فالبلاد التي اخترعت الكرة الشاملة وقدّمت عقولاً من أمثال رينوس ميتشلز ويوهان كرويف، فَرِغت من المدربين المميزين، والدليل على هذا الكلام أن الاتحاد الهولندي أعاد مرات عدة مدربين فشلوا في مهماتهم مع المنتخب كونه لم يجد بديلاً جديداً. فإذا أخذنا في عين الاعتبار منذ عام 1992 وحتى اليوم، نجد أن ديك أدفوكات تسلم مهام الإشراف على المنتخب ثلاث مرات، ولويس فان غال مرتين، ومثله فعل غوس هيدينك.
لا يتحمل المدربون المتعاقبون المشكلة بل إن الدوري الهولندي يتحملها

وهذه المسألة إذا ما دلّت على شيء فهو أن هولندا لم تعد قادرة على إيجاد فلاسفة جدد يدخلون عملية تغيير شاملة على أسلوب تعاطيها مع الكرة، ليقع الخيار الذي وُصف بالكارثي على كابتن اياكس امستردام السابق داني بليند الذي لم يحقق شيئاً يُذكر منذ بداية مشواره التدريبي، لا بل إن تجربته مع اياكس كانت مأسوية حيث احتل معه المركز الرابع في الدوري، وهو مركز لم يعرفه فريق العاصمة الهولندية طوال الـ 15 عاماً التي سبقت.
لكن المشكلة لم تكن بليند وحده بل إن مشاكل أخرى طرأت وعطّلت دوران الطواحين الهولندية، على غرار تقدّم نجوم المنتخب في السنّ، امثال ويسلي سنايدر، اريين روبن، روبن فان بيرسي وكلاس - يان هونتيلار. وهؤلاء لم يكونوا سيئين في فتراتهم الأخيرة مع المنتخب لكنهم كانوا بحاجةٍ الى دماء شابة تزيد من قوتهم وتعطيهم حياةً جديدة، لكنهم لم يجدوها في مجموعة شبّان بدوا غير قادرين على الارتقاء الى مستوى التحدي.

ضياع فردي وجماعي
الضياع على الصعيد الفردي للاعبين وصفوا بالنجوم في هولندا انعكس سلباً على الأداء الجماعي، فالحارس الأول ياسبر سيليسن مكث احتياطياً في برشلونة الإسباني، ولاعب الوسط المميز مع روما الإيطالي، كيفن ستروتمان عاش في دوامة إصابة طويلة ومؤذية. أما الجناح الذي وُصف بالموهبة الجديدة، كوينسي برومس فهو اختار اللعب في روسيا مع سبارتاك موسكو، أي حيث الدوري الذي لا يعطي اللاعب أي إضافة بل يأخذ منه. أما دالي بليند الذي رأى فيه الهولنديون القائد المنتظر لخط الدفاع، فإنه فقد الثقة بنفسه منذ فقدانه لمكانه الأساسي في تشكيلة مانشستر يونايتد الإنكليزي، حيث عاش زميله ممفيس ديباي فترةً صعبة لينتهي به الأمر لاعباً مع ليون الفرنسي.
ندرة المدربين والمواهب ومستوى الدوري هي في صلب أزمة الكرة الهولندية

بدوره، فينست يانسن، الهداف الذي وُصف بخليفة رود فان نيستلروي، فقد خيّب آمال توتنهام هوتسبر الذي دفع مبلغاً كبيراً لاستقدامه الى صفوفه قبل أن يعيره إلى فنربخشه التركي بسبب عدم تقديمه لأداء بحجم متطلبات البريميير ليغ. وتطول سلسلة اللاعبين الدوليين الذين عانوا هنا وهناك ليضطر ادفوكات بعد خلافته لبليند لاستدعاء مجموعة شابة فيها لاعبين مثل ويسلي هودت (لاتسيو الايطالي) ونايثان أكيه (تشلسي الانكليزي)، لكنهم كلّهم افتقدوا إلى خبرة المباريات الدولية ولم يستطيعوا التأقلم مع المخضرمين، فحلّت الكارثة.

الحلول المفقودة
وفي ظل الأزمات المتلاحقة أخطأ الاتحاد الهولندي بعدم الإنصات إلى الأصوات التي نادت بضرورة الاستعانة بالخارج أي استقدام مدربٍ أجنبي، وهو أمر لم تفعله هولندا منذ رحيل النمسوي إرنست هابل الذي قاد كرويف ورفاقه الى نهائي مونديال 1978. والحلّ بالتأكيد لم يكن ادفوكات الذي لم يؤمن بشيء مما رسمه أسلافه، ولا حتى فان غال الذي قدّم مونديالاً جيداً، يكفي فيه العرض الكبير الذي سحق من خلاله إسبانيا حاملة اللقب وقتذاك بنتيجة 5-1. وهنا فشل خلفاء فان غال، إذ لم ينظروا إلى مسألة مهمة وهي مسألة القبول الفكري غير الموجودة عند لاعبين تخطوا الـ 23 من العمر، فهم لا يأخذون كل شيء من المدربين إلى أرض الملعب بعكس أولئك الذين تبلغ أعمارهم الـ 18 أو الـ 19 سنة، والذين اعتاد المنتخب الهولندي استقبالهم ليصبحوا بعدها أعمدته الأساسية، وذلك بعكس ما هو الحال عليه اليوم، إذ إن الافتقاد للمواهب الصغيرة التي تستحق اللعب مع المنتخب جعلت البداية الدولية للاعبين الهولنديين متأخرة بعض الشيء.


ولا يتحمل المدربون المتعاقبون هذه المشكلة بالأساس بل إن الدوري الهولندي نفسه يتحملها، وهو ما ظهر في الأخطاء الدفاعية القاتلة التي ارتكبها أمام بلغاريا أهم موهبة دفاعية في البلاد ماتييس دي ليت (17 عاماً)، وذلك بسبب ضعف بطولة الدوري حيث الاحتكاك أضعف مقارنةً بالساحة الدولية التي كشفته عند الامتحان الصعب. علماً أنه في المباراة المذكورة وباستثناء روبن الذي تخطى وقتذاك الـ 45 مباراة دولية، لم يتخطّ 6 لاعبين الـ 20 مباراة، و3 آخرين الـ 10 مباريات، ما يدلّ على ضعف الخبرة في التشكيلة الهولندية، وخصوصاً في التعامل مع مباريات حاسمة ومفصلية حيث تحيط الضغوط باللاعب من كل حدبٍ وصوب. ببساطة تبحث كرة القدم الهولندية عن روحها الضائعة في سماء الكرة العالمية، وسيبحث منتخبها مع مدربه الجديد عن روحٍ فقدها في السماء المونديالية وعن لمسة براغماتية تعيده الى سابق عهده وتمنحه مستقبلاً أفضل ليقف بين الكبار مجدداً.


مصنع المواهب
دائماً ما تمرّ المواهب بمرحلة «تأهيلية» أو مرحلة «التصنيع» وكسب الثقة في دوريات مختلفة قبل أن تسطع نجوم هذه المواهب الكروية في صفوف الفرق التي تنتقل إليها بعد أن مرّت بمحطّة النضج الكروي في دورياتها السابقة. من بين هذه المصانع، «مصنع» الدوري الهولندي، الذي عانى أخيراً من تراجع، لكنه يعتبر رغم ذلك من بين أفضل الدوريات التي تخرّج لاعبين ومواهب تبهر العالم. «ليستا» طويلة من الأسماء التي لمعت في الدوريات الأوروبية الكبرى بدأت من هناك. «الظاهرة» رونالدو لزلاتان إبراهيموفيتش، يوهان كوريف الراحل سابقاً، وغيرها من الأسماء الكبيرة التي تركت بصمتها في تاريخ كرة القدم. اليوم، يقوم نادي أياكس بهوايته المفضّلة في إخراج المواهب، من بينها ابن اللاعب الهولندي السابق باتريك كلويفرت، جاستن، الذي قدّم موسماً مميّزاً في ملعب «كرويف»، حيث سجّل كلويفرت (19 عاماً) 10 أهداف بالإضافة إلى خمسة تمريرات حاسمة ودقة تمرير وصلت إلى 87%. وعند ذكر أياكس، لا يمكننا نسيان الموهبة البرازيلية التي لديه أيضاً، الجناح دافيد نيريس (21 عاماً)، الذي شكّل رفقة جاستن كلويفرت ثنائياً شاباً قدّم لنا السّحر الكروي في الدوري الهولندي الموسم الماضي. اليوم آخر الأخبار تقول بأن ابن باتريك ذاهب إلى روما الإيطالي، ومن هنا تبدأ ربّما، حكاية موهبة ونجم جديد يخرج من هولندا ليبهر العالم.


المونديال المستحيل

1974 الكرة الشاملة


كانت بطولة كأس العالم 74، هي أول بطولة يصل فيها المنتخب الهولندي للنهائي، وبمنتخب كان قد أبهر العالم بطريقة لعبه: «الكرة الشاملة» والتي سحقت الأرجنتين برباعية، وفازت على البرازيل بثنائية، إلا أن الفرحة لم تكتمل بسبب خسارة النهائي أمام منتخب ألمانيا الغربية مستضيفة البطولة بهدفين مقابل هدف واحد.

1978 الأرجنتين تنتقم


بغياب كرويف عن البطولة، بسبب التهديدات التي تعرض لها، إلّا أن هذا لم يمنع من بلوغ المنتخب الهولندي المباراة النهائية للمرة الثانية توالياً في كأس العالم، إلّا أن الأراضي المنخفضة اصطدمت من جديد في النهائي مع صاحب الأرض المنتخب الأرجنتيني، ليرى الهولنديون من جديد الكأس ترفع أمامهم بعد الخسارة بنتيجة 3-1.

2010: الثالثة ليست ثابتة


في مونديال 2010، كانت ثالث مرّة يصل فيها المنتخب الهولندي إلى نهائي كأس العالم، واضعين نصعب عينهم، «الثالثة ثابتة»، إلّا أنها اهتزّت بهدف أندريس إنييستا في الوقت الإضافي لتخسر هولندا النهائي الثالث لها في تاريخها على الأراضي الأفريقية.