لا يزال بحر الدموع الذي ذُرف في البرازيل يوم 8 تموز 2014 ومشاهد الصدمة والذهول حاضرة في أذهان البرازيليين. حفرت السباعية الألمانية التاريخية في نصف نهائي المونديال عميقاً في الذاكرة البرازيلية القريبة. تركت ندوباً كبيرة وآلاماً مريرة لدى البرازيليين، الذين هم ــ عرفاً ــ «ملوك اللعبة» وسحرتها. الجميع تقريباً يعرف أن الكرة في البرازيل مختلفة. الكرة هناك كالسحر، أو قل إن الأسطورة الأرجنتيني دييغو مارادونا هو من طغى على سحر البرازيليين في حقبة من الزمن، أما غير ذلك فسحر الكرة هو مرادف للبرازيل. غير أنه منذ تلك السباعية في ذلك اليوم التاريخي، في ملعب «مينيراو» في بيلو هوريزونتي، تغيّر الكثير. اهتزّت صورة «السيليساو»...في 1950 عاش البرازيليون «صدمة ماراكانازو»، كما أسموها، عندما خسروا في المباراة النهائية للمونديال على أرضهم، في ملعب «ماراكانا» التاريخي وأمام حوالى 170 ألف متفرج أمام الجارة الأوروغواي 1-2 رغم أنهم كانوا بحاجة للتعادل فقط، وحتى أنهم تقدّموا بالنتيجة مطلع الشوط الثاني (كان نظام البطولة وقتها استثنائياً حيث لُعب الدور النهائي وفقاً للنقاط من خلال مجموعة تضم 4 منتخبات). لكن «صدمة مينيرازو»، كما أسموها أيضاً، كانت آثارها أعمق.
بعد مونديال 1950 توِّجت البرازيل بعد سنوات قريبة بثلاثة ألقاب لكأس العالم في 1958 و1962 ومن ثم في 1970. ظهر حينها بيليه وغارينشا وتوستاو وجيرزينيو وكارلوس ألبيرتو وغيرهم. حكم «السيليساو» عالم الكرة. عاد بعد سنوات لتثبيت ذلك بلقبي مونديالي 1994 و2002 وبينهما نهائي 1998. ظهر حينها روماريو وبيبيتو ورونالدو وريفالدو وروبرتو كارلوس وغيرهم. وخلال كل ذلك الماضي ألقاب عديدة في «كوبا أميركا». أما بعد مونديال 2014، ظهرت الآثار السلبية واضحة على البرازيليين، تحديداً من الناحية المعنوية وهيبة «السيليساو». فشل المنتخب مرتين فشلاً ذريعاً في «كوبا أميركا». بدت البرازيل مريضة وداؤها كان، بوضوح، تلك السباعية.

صحيح هنا أن البرازيل استعادت لاحقاً شيئاً، لا كثيراً، من سحرها الغابر – حيث لا يمكن طبعاً المقارنة مع الأجيال السابقة – عبر تألّقها في تصفيات مونديال روسيا 2018 حيث لم يتعرّض «السيليساو» تحت قيادة تيتي لأي خسارة وكان أول المتأهلين إلى البطولة وقدّم مستويات مميزة تحديداً في الفوز الكبير على «أرجنتين ميسي» أداء ونتيجة 3-0، وبدا الانسجام والتطور واضحين على التشكيلة المتجانسة والقوية خصوصاً في الجانب الهجومي عبر وجود نيمار وفيليبي كوتينيو وغابريال خيسوس ويضاف إليهم ويليان ودوغلاس كوستا، إلا أن ذلك لا يمنع من أن الجانب المعنوي المتأثر بالسباعية لم يُشف تماماً. صحيح أيضاً أن مدرب ألمانيا، يواكيم لوف، اعتبر أن «السيليساو» هو المرشح الأخطر على منتخبه في المونديال، لكن لا يزال هناك حذر برازيلي، والثقة لا تبدو مكتملة. هذا في الوقائع. إذ على سبيل المثال، فإن استطلاعاً للرأي قامت به شركة «داتافوليو» البرازيلية قبل مدة قصيرة أظهر أن 47% فقط من البرازيليين يتوقّعون أن منتخبهم سيُحرز لقب مونديال روسيا في حين أن النسبة كانت 68 % قبل مونديال البرازيل و66 % قبل مونديال جنوب أفريقيا وفقاً لأرقام الشركة ذاتها، أما السبب، فهو استمرار تأثير السباعية على ثقة البرازيليين رغم النجاح في التصفيات. في مثال آخر، أن يكون المنتخب الألماني هو المرشح الأول للأسطورة البرازيلي رونالدو (الذي شاهد السباعية في مدرجات «مينيراو» وكسْر ميروسلاف كلوزه رقمه التاريخي كهداف المونديال) وبعده البرازيل وإسبانيا كما توقّع قبل أيام لصحيفة «بيلد» الألمانية رغم إشادته بعمل تيتي وتطور «السيليساو»، فإن ذلك انعكاس آخر لعدم اكتمال الثقة البرازيلية بالمنتخب.
أمام هذا المشهد، تأتي القمة الودية غداً في برلين بين البرازيل وألمانيا. لولا السباعية لقلنا إن المباراة مهمة ولو أنها ودية، إذ إنها تجمع بين منتخبين كبيرين في حوزتهما 9 ألقاب مونديالية، لكن بعد السباعية فإن المباراة تحمل أهمية مضاعفة. أهمية على المستوى البرازيلي تحديداً. أهمية في الظروف والتوقيت والمكان. يمكن القول إن هذه المباراة تُعدّ فرصة مثالية للبرازيليين لاسترجاع الكثير من الثقة المفقودة. نعم، شاء القدر أن لا يكون نيمار حاضراً مجدداً ضد الألمان كما في 2014، لكن هذا لا يمنع من أن المنتخب البرازيلي لا يزال قوياً حيث إنه كسب تحت قيادة تيتي العديد من مفاتيح اللعب والانتصارات وتخلّص من صفة منتخب النجم الواحد، أي نيمار، رغم تأثير الأخير، علماً أيضاً أن الجانب الألماني سيفتقد مسعود أوزيل وتوماس مولر وسامي خضيرة. إذاً فلنقل إن الأمور متكافئة تقريباً.
دون أدنى شك فإن البرازيل تبحث عن هذا الفوز تحديداً دون غيره للثأر أولاً، إذ ربما فإن المنتخبين قد لا يتواجهان في المونديال الروسي، وثانياً للتأكيد للعالم قبل البرازيليين أن المنتخب البرازيلي تعافى وأنه استعاد هيبته التي كانت تُرعب الخصوم قبل أي مباراة، إذ اعتدنا دوماً أن البرازيل يتفوّق من الناحية المعنوية على أي منافس قبل مواجهتهما. هذا ما تحتاج البرازيل استرجاعه بالضبط، وكيف إذا جاء أمام الألمان، وأين؟ في عاصمتهم برلين. بالحديث عن هذا الجانب، أي المعنوي، وتأثير السباعية الألمانية، فإن الفوز على الألمان في أي ميدان بات في صدارة أولويات البرازيليين حتى ربما أكثر من الفوز على الجارة اللدودة الأرجنتين. هذا ما تثبته مثلاً التغريدة المعبّرة واللافتة لشخص بمكانة بيليه وما يمثّله قبل المباراتين النهائيتين في كرة الطائرة الشاطئية للسيدات وكرة القدم للرجال في أولمبياد ريو دي جانيرو صيف 2016، عندما كتب: «سنبرهن أن كرة القدم وكرة الطائرة الشاطئية تنتميان للبرازيل». هكذا، وبعد السباعية، طغى شعور لدى البرازيليين بأن شيئاً ثميناً انتُزع منهم. حينها، للتذكير، فاز الألمان بلقب الطائرة الشاطئية والبرازيليون بلقب كرة القدم، لكن الفوز البرازيلي لم يشف الغليل ويرد الاعتبار، إذ إن المباراة لم تكن على مستوى المنتخب الأول بل المنتخب الأولمبي وقد فاز البرازيليون بصعوبة رغم وجود نيمار، فيما كان الألمان مشاركين بمنتخب شاب تماماً.
ستكون أمسية كبيرة بكل المقاييس غداً في برلين. الطرفان يسعيان للفوز بكل تأكيد. الألمان يريدونه لإظهار قوّتهم مجدداً وتثبيت تفوّقهم على البرازيل. لكن أهمية الفوز عند البرازيليين مضاعفة لمحو بعض من آثار مونديال 2014 والمضي بثقة نحو روسيا. في الواقع، لا تحتمل البرازيل، قبل أقل من 3 أشهر على انطلاق المونديال، صدمة ألمانية جديدة، ولو كانت ودّية.


أثر «السباعية»!
تحوّلت السباعية إلى وصمة عار ومادة للسخرية تلاحق البرازيليين ولا يعرفون لها نهاية. هكذا، لم يكتف البرازيليون من سخرية الأسطورة الأرجنتيني دييغو مارادونا بهم عندما أشار للنتيجة بأصابعه، إذ في كل عام يصادف فيه تاريخ المباراة يعود الحديث عنها، وهذا ما يعيد نكء الجراح البرازيلية، أو مثلاً في كل عام منذ 2014 يصادف فيه الأول في شهر 7 أو السابع في شهر واحد (1-7 و7-1) يستعيد رواد مواقع التواصل السباعية بمواد ساخرة. حتى أن اللاعبين الألمان لا يتوانون عن السخرية كما فعل طوني كروس، الذي سجّل هدفين في السباعية، عندما استقبل عام 2017 بتغريدة في حسابه على «تويتر» كتب فيها: «عام سعيد 2017» واستبدل رقم 7 بعلم ألمانيا ورقم 1 بعلم البرازيل، ليردّ عليه زميله في ريال مدريد مارسيلو بتغريدة كتب فيها: «سنة جديدة وسعيدة، وصحة جيدة للجميع وكذلك احترام الآخرين للأبد»، أرفقها بخمسة أعلام للبرازيل في إشارة للألقاب المونديالية الخمسة لـ «السيليساو». حتى أن تغريدة كروس استفزّت «الظاهرة» البرازيلي رونالدو الذي ردّ بتغريدة مماثلة: «عام سعيد 2017»، لكنه استبدل رقم 2 بعلم البرازيل ورقم صفر بعلم ألمانيا، في إشارة لفوز «السيليساو» على «المانشافت» 2-0 في نهائي مونديال 2002.