جنوب إيطاليا. هنا الوجه الآخر لكرة إيطاليا. هنا الكرة حياة. الفقراء الذين يجدون في الكرة متنفّسهم، بهجتهم، واحتفالاتهم. الكرة في تلك البقعة من أرض إيطاليا ليست ترفاً أو «بريستيجاً». فرْق كبير بين كرة جنوب إيطاليا وشمالها. هي انعكاس للصراع الطبقي بين الشمال الغني والجنوب الكادح.
شمال الأموال وجنوب الصيادين. هو الشمال الذي يهمّش الجنوب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. الحديث ليس نوستالجياً، واسألوا الانفصاليين، الذين يتذرعون بفقر الجنوب، للدفاع عن «الكراهية».
فرْق كبير على سبيل المثال بين مدينتي ميلانو عاصمة الموضة والأزياء وتورينو الشماليتين وروما وبالتحديد نابولي الجنوبيتين. هنا وجهان مختلفان لإيطاليا تعبّر عنهما بشكل كبير كرة القدم. أندية ميلان وإنتر ميلانو ويوفنتوس الشمالية تعكس ذلك من خلال قوتها المالية وشرائها أبرز النجوم العالميين بمبالغ طائلة، على عكس روما وأكثر منه نابولي. هذا ما يحكي عنه الماضي والحاضر. نستثني مارادونا. ونستثني توتي. الملكان فوق قلوب سكان المدينتين.
نابولي وروما عاشتا ما لم تستطع أن تعيشه ميلانو وتورينو. في ملعبي «سان باولو» و»الأولمبيكو» عاش الفقراء شغف الكرة والجنون الجميل بها. هذا الشغف صنعه في «سان باولو» الأرجنتيني دييغو أرماندو مارادونا. مرّ دييغو في نابولي ذات حقبة مجيدة من كرة إيطاليا ومسح الأحزان عن وجوه فقرائها. تحوّل إلى فرحتهم. هذا الفرح كان يُرى في العيون الشاخصة إلى هذا النجم الأسطوري مذ كان ينزل لإجراء التدريبات في الملعب قبل المباريات. أما خلالها فكان يطير بهم إلى عالم آخر.

فرْق كبير بين ميلانو
وتورينو الشماليتين وروما ونابولي الجنوبيتين
يعيشون معه الأحلام وينسون معاناة العيش والآلام. تلك الأحلام التي تحوّلت إلى حقيقة عندما رفع دييغو كأس «الكالتشيو». كان الكابوس كبيراً على شمال إيطاليا: كيف لهؤلاء الفقراء أن يحكموا كرة البلاد رغم أن ميلان كان يتغنّى في تلك الفترة بثلاثية الهولندي ماركو فان باستن ورود غوليت وفرانك رايكارد وفرانكو باريزي وإنتر ميلانو بثلاثية الألماني لوثر ماتيوس ويورغن كلينسمان وأندرياس بريمه ويوفنتوس بنجمه الفرنسي ميشال بلاتيني؟
في «الأولمبيكو»، كان المشهد مشابهاً بعد سنوات لاحقة. هناك، في العاصمة، عاشت جماهير «جيالوروسي» أجمل اللحظات مع فرانشيسكو توتي. تحوّل «إل كابيتانو» إلى رمز وملهم للجماهير المتعطّشة للكرة الجميلة. لم يكن توتي مارادونا. فرق كبير بين الاثنين طبعاً. لكنه، على غراره، شكّل «حالة» في روما. هناك، ارتبطت به الجماهير بشكل وثيق، وبات بالنسبة لها أكثر من لاعب. أصبح حديث الصباحات والمساءات. تحكي عنه صوره المنتشرة في القلوب قبل الجدران في الطرقات.
مارادونا وتوتي لم تعرف مثلهما مدينتا ميلانو وتورينو. صحيح أن نجوماً عمالقة كثراً مرّوا على ميلان وإنتر ميلانو ويوفنتوس، لكنهم لم يتركوا ذلك الأثر في النفوس كما فعل دييغو وفرانشيسكو. لم يصبحوا وجه مدينتين وملهمي ناسها. لم يصبحوا فرحة فقرائها وشغفهم الأول للكرة كما الحال مع دييغو وفرانشيسكو. هنا الفرق. هذا الفرق الذي يحمل معاني ويضجّ بالمشاعر الجميلة التي توازي الألقاب المحلية والأوروبية التي تفوّقت بها فرق الشمال، وهذا طبيعي نظراً لقدراتها المالية تاريخياً.
اليوم يسافر روما إلى نابولي ليلعب في «سان باولو». عبق الماضي يحضر في مثل هذه المباريات. طيف مارادونا وتوتي سيكون حاضراً طبعاً. لا يمكن أن تنزع هذين الأسطورتين من قلوب عشاقهما. هما معهما على الدوام. صورهما ستكون بالتأكيد حاضرة في المدرجات.
المسافة بين العاصمة والمدينة المضيفة حوالى 250 كلم. مسافة كبيرة، لكن القرب بين الفريقين أكبر بكثير. قرب في عشق ناسهما للكرة. عشق فطريّ. في «سان باولو»، الليلة، مهرجان فرح كروي لجنوب إيطاليا.

* نابولي X روما، ملعب سان باولو، السبت 4 آذار/مارس 2018، العاشرة إلا ربعاً ليلاً بتوقيت بيروت




«بركان سان باولو»

تشتهر نابولي ببركان فيزوف، لكن البركان الذي لا يهدأ في المدينة هو في ملعبها «سان باولو». هذا البركان الذي أشعله دييغو أرماندو مارادونا ولم ينطفئ بعد.
لإدراك هذه الأجواء يكفي التوقف عند ما قاله لاعب «جيالوروسي» السابق الفرنسي – السنغالي ريكاردو فاتي عن زيارته لـ «سان باولو» قبل 8 سنوات: «كان ذلك في شباط 2010 وقد تعادلنا 2-2. كنا نتقدّم 2-0، دخلت قبل 15 دقيقة من نهاية المباراة وقد عادلوا النتيجة في الوقت الإضافي من ركلة جزاء».
ويضيف: «الأجواء كانت تغلي، لقد تحوّل الملعب إلى بركان حقيقي، لأن المباراة هي دربي الجنوب وهناك عداوة كبيرة بين الفريقين».