«يجب على من يلتقط الصور التذكاريّة أن يطلب فنجاناً من القهوة، وإلا فستقع آلة تصويره وتتحطّم». بهذه الكلمات المترجمة إلى لغات عديدة، يستقبل مقهى «نيلو» روّاده في الوسط التاريخي في نابولي. ربّما هو المقهى الأشهر في المدينة، لا بسبب القهوة التي يقدّمها، بل بسبب دييغو أرماندو مارادونا.
«كنت في مطار ميلانو، ولم يكن يفصل بيننا سوى بضعة أمتار. حين همّ مارادونا بالرحيل، رأيت خصلةً من شعره على سندة الرأس فأخذتها واحتفظت بها في علبة سجائري. عند عودتي إلى نابولي أردت أن أفعل شيئاً خلّاقاً». وبالفعل، ما كان من «برونو» إلا أن صمم الحائط الواقع قرب باب محلّه بطريقته الخاصّة. وضع الرجل صورةً للفتى الذهبي على هيئة إله وعلّق إلى جوارها خصلة الشعر في إطارٍ مربّع، واضعاً إلى جانبها نسخة من الصفحة الأولى لإحدى الصحف التي يعود تاريخها إلى صبيحة فوز نابولي بلقب الاسكوديتو الأوّل. نتيجةً لذلك، أصبح المكان مقصداً للسيّاح وأبناء المدينة كما لو أنه مزارٌ لشفيعها «بادري بيو» أو القدّيس جينّارو.
على مسافة ليست ببعيدة من المقهى، تزيّن جدارية عملاقة لمارادونا أحد المباني في منطقة «الأحياء الإسبانية» ومثلها في منطقة «سان جوفاني تادوتشو»، إضافة إلى كتابات على أكثر من حائط والجملة واحدة: «الفخر لمن كتب تاريخنا».

ارتفع عدد من يحملون اسم دييغو من
حديثي الولادة بنسبة ٢٠٪ في نابولي

في الشوارع يصادفك أكثر من بائع متجوّل وعديد المحال، كما في شارع «توليدو» التجاري، يبيعون القميص الأسطوري الذي يحمل الرقم ١٠ المحجوب في نابولي وأوشحةً وقمصاناً مكتوباً عليها «من يُحب لا ينسَ». هي عبارة تلخّص كل شيء، فهنا لم ينسَ أحد العبقريّ الأرجنتيني، وسرعان ما يبدو التأثر واضاحاً على وجوه السكان حين تسألهم عنه. فبغض النظر عن أعمارهم وعمّا إذا كانوا قد عايشوا فترة لعبه أو لا، يحدّثك الجميع بكل فخر واعتزاز عنه وكأنها قصة بطلٍ خارق تتوارثها الأجيال. قصّة بدأت أحداثها في الخامس من تمّوز من عام ١٩٨٤ حين قُدِّم «الفتى الذهبي» على ملعب السان باولو. يومذاك، ألهب القصير القامة والكثيف الشعر حماسة نحو سبعين ألف متفرّج احتشدوا لرؤيته في نهارٍ مشمسٍ غيّر تاريخ ناديهم إلى الأبد. وقتذاك، لم يكن في خزائن الفريق الجنوبي سوى لقبين في كأس إيطاليا، وبالكاد كان معروفاً على الصعيد الأوروبيّ، أما دييغيتو فكان يُعاني مع برشلونة، وكانت علاقته بالفريق الكاتالوني قد وصلت إلى نهايتها. وكأن القدر قد شاء أن يجمع بينهما، لينضّم الأرجنتيني إلى نابولي في صفقةٍ قياسيّةٍ حينذاك بلغت نحو ١٣ مليون دولار، حصل الفتى الذهبي على نصفها تقريباً. لتبدأ بذلك حقبة نابولي ــ مارادونا التي استمرت لسبعة مواسم كاملة، وكانت الأنجح في تاريخ النادي، حيث أثمرت لقبين في الدوري المحليّ ولقباً واحداً في كأس إيطاليا، بالإضافة إلى إحراز كأس السوبر الإيطالي وكأس الاتحاد الأوروبي في مناسبة واحدة أيضاً. خلال تلك الأيام الذهبية كانت المدينة تعيش حمّى مارادونا بكل ما للكلمة من معنى، فإلى جانب الأغاني التي كُتبت من أجله، وصوره التي زيّنت جدران أحياء المدينة، وعديد المأكولات والهدايا التي أُطلق اسمه عليها، وصل الأمر إلى ارتفاع عدد من يحملون اسم دييغو من حديثي الولادة بنسبة ٢٠٪! هذا الهوس غذّاه تحقيق الألقاب في أقوى بطولات العالم وأصعبها حينها، وكسر سيطرة الشمال الغنيّ وهزم أنديته بجماهيرها العنصرية والمغرورة في بعض الأحيان. مثّل الرقم ١٠ الكبرياء والكرامة في مواجهة الجماهير الشمالية، ولعب بعقلية المشجعين المتعصبين ومثّلهم على أرضية الميدان، وكان الفرح الذي لم تعرفه المدينة إلا على يديه. صحيحٌ أنّ عدداً من اللاعبين المميزين ساعدوا مارادونا حينذاك على الفوز بالألقاب، لكن من دونه كان الأمر مستحيلاً، ولا سيما أنه كان يملك شخصيةً قياديةً داخل المستطيل الأخضر لطالما صنعت الفارق إلى جانب إمكاناته الفنية الاستثنائية بالطبع. دوره الإيجابيّ هذا، امتد أيضاً إلى غرف الملابس، حيث أسهم في تحفيز زملائه وشحذ هممهم ورفع روحهم المعنوية. فبعد الفوز بلقب الدوري الأول في موسم 1986-1987 مثلاً، ردّد لاعبو الفريق الأغنية الشهيرة: «يا أمّاه، هل تعلمين لماذا يخفق قلبي؟ لقد رأيت مارادونا! أنا في حالة حبّ». لم يكن ذلك الموقف العفوي سوى اعتراف منهم بإسهامات قائدهم الأساسية بذلك الانتصار. انتصارٌ يعتبره الأرجنتيني هو الأهم في مسيرته الكرويّة إلى جانب فوزه بكأس العالم عام ١٩٨٦ في المكسيك، ولكن بمذاقٍ مختلفٍ: «استطعت في ذلك اليوم الاحتفال باللقب في بيتي وإلى جانب شعبي في نابولي. أما في مدينة مكسيكو، فكان شعبي الأرجنتيني بعيداً عنّي». هذه العلاقة الخاصة بينه وبين الجماهير جعلته يطلب منهم تشجيع الأرجنتين ضد بلدهم في مباراة نصف نهائي كأس العالم ١٩٩٠ التي أقيمت على ملعب السان بالذات، فتوّجه إليهم قائلاً: «يعاملونكم بطريقةٍ سيئةٍ طوال ٣٦٤ يوماً في السنة، ويريدون منكم أن تكونوا إيطاليين ليومٍ واحدٍ فقط وتشجعوا منتخبهم. أنا نابوليتانو لمدة ٣٦٥ يوماً في السنة. أنا واحدٌ منكم. شجّعوا الأرجنتين». ولكن مشجّعي نابولي كانوا أوفياء في تلك الليلة لبلدهم، على عكس ما يُشاع، ورفعوا لافتتين أجابوا بهما أسطورتهم. فكتبوا في الأولى «مارادونا، نابولي تحبّك ولكن إيطاليا هي وطننا»، ورفعوا في الثانية «دييغو في قلوبنا وإيطاليا في هتافاتنا»، واحتراماً له ولمنتخبه لم يطلقوا صافرات الاستهجان عند عزف النشيد الأرجنتيني في تلك الليلة، كما حصل في باقي الملاعب خلال البطولة.
«يقولون بأنه لا يمكن لمس السماء بالإصبع. أنا فعلت ذلك في نابولي»، هكذا كتب مارادونا على صفحته على فايسبوك الاثنين، في إطار إعلانه الذهاب إلى نابولي لتسلّم «المواطنة الفخرية» اليوم. يتزامن هذا الحدث مع الذكرى ٣٠ لتتويج الفريق بلقب الاسكوديتو الأول، ومرور ٣٣ عاماً على تقديم اللاعب لجماهير نابولي. تلك الجماهير ستتوافد بلا شك إلى ساحة «بليبيشيتو» حيث سيقام الحدث للتعبير عن عشقها وإخلاصها تجاه أسطورتها الذي قال فيها يوماً: «إنّهم شعبي وأهلي، لذلك مهما ابتعدت عنهم، سأظل في حالة حبٍّ معهم».