يستعيد اليوم الدوري الألماني لكرة القدم نشاطه بعد فترة توقُّف طويلة لأكثر من شهر بسبب العطلة الشتوية جعلت الاشتياق يزداد إليه، لكن فرقه لم تتوقف عن التدريبات. تحت الثلوج كانوا يتدربون هناك استعداداً للعودة القوية، ففي ألمانيا عمل وبعده عمل حتى خلال فترات الراحة. هكذا هم الألمان منذ الأزل، وهذا هو سرّ نجاحهم في كافة المجالات، ومن بينها كرة القدم التي تعكس صورة مصغّرة لريادة هذا البلد يفتخر بها كل ألماني كيفما حلّ وارتحل.
بالتأكيد كانت الصورة ناقصة، ناقصة جداً في الملاعب الأوروبية خلال استراحة «البوندسليغا»، إذ بات لبطولة ألمانيا حضورها المؤثّر والقوي في الساحة الأوروبية، وهذا اتّضح أكثر بغيابها.
فمن دون «البوندسليغا» لا صورة بهيّة للكرة التي تعكسها الملاعب التي تضج بالمتفرجين عبر مشهدية رائعة على المدرجات لا وجود لها في بطولات أخرى. إذ كما هو معلوم، إن معدل الحضور الجماهيري في الدوري الألماني هو الأعلى في البطولات الأوروبية بـ 44 ألفاً في المباراة الواحدة، وما يزيد الصورة روعة، هو الملاعب المميزة والحديثة المنتشرة على امتداد الأرض الألمانية، وهذا ما لا يوجد، من حيث الكمية والنوعية، في باقي البطولات الأخرى، بما فيها الدوري الإنكليزي الأول في العالم وبعده الإسباني.
لكن في الدوري الألماني الأمور لا تتوقف على المظهر والشكل الجميل فحسب، إذ ثمة مردود هناك على أرض الملعب ومنافسة آخذة في الازدياد في الأعوام الأخيرة تعكسها المباريات ذات المستوى الكروي المميّز، وبمعدل تهديفي مرتفع لا يخلو من تحف (أهداف) رائعة. صحيح أن بايرن ميونيخ يغرّد وحيداً في الصدارة هناك، وهو بعيد بأشواط عن البقية، لكن عموماً فإن المباريات بين الفرق الألمانية الأخرى لا تخلو دائماً من تشويقٍ وكرة جميلة حتى اللحظات الأخيرة، وهذا المستوى التنافسي القوي لا يضمن الفوز حتى للفرق الكبرى - باستثناء بايرن - وخير دليل على ذلك وجود بوروسيا دورتموند القوي في المركز قبل الأخير حالياً.
لكن الأهم من ذلك، العقلية في تلك البلاد. العقلية هناك هي «بيت القصيد». إذ ثمة في ألمانيا أدمغة تعمل بصمت وهدوء وتأنٍّ وذكاء، لتصل إلى مرادها، مستفيدة من مراقبة تجارب الآخرين، وهذا ما أعاد، بالدرجة الأولى، «البوندسليغا» إلى الواجهة الأوروبية والعالمية والمتابعة الجماهيرية داخل ألمانيا وخارجها بعد فترة من خفوت وهجها بعد حقبة السبعينيات والثمانينيات ومطلع التسعينيات المميزة.
حققت «البوندسليغا» إيرادات قياسية تصاعدية للعام
العاشر على التوالي

المدهش في تلك البلاد أن الألمان، على مستوى الإدارة والفرق في «البوندسليغا»، يعملون جميعاً ككتلة واحدة ضمن منهجية واحدة وفكر واحد وجدية ونشاط والتزام ليصلوا إلى نجاح مشترك للدوري المحلي خارجياً بغضّ النظر عن المنافسة الداخلية. والأكثر دهشة ومدعاة للتأمل هو انسجام وذوبان كل غريب - أي اللاعبين الأجانب - في هذه المنظومة حتى تخالهم أنهم ألمان الولادة والمنشأ (الفرنسي فرانك ريبيري مثالاً)، وهذا ما جعل «البوندسليغا» ينمو ويزدهر ويتقدم متخطياً بأشواط الدوري الإيطالي ومقترباً من الإسباني والإنكليزي، حتى إن التوقعات تشير إلى أن الدوري الألماني سيصل إلى مرتبة الإنكليزي في السنوات المقبلة.
في الواقع، بات الدوري الألماني نموذجاً بين أقرانه في أوروبا وهو لا ينتهي من تقديم الدروس للبقية، وآخرها قبل أيام قليلة حين كشف الاتحاد الألماني لكرة القدم أن «البوندسليغا» حقق إنجازاً نوعياً جديداً بإيرادات قياسية متصاعدة للعام العاشر على التوالي بلغت 2,45 مليار دولار في الموسم الماضي بزيادة أكثر من 12% عن الموسم السابق، وذلك من خلال ارتفاع المدخول من الحضور الجماهيري والنقل التلفزيوني بحيث إن 13 من أصل 18 نادياً حققت أرباحاً.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الاستقرار المالي مهم جداً لإصابة النجاح على المستوى الرياضي، وهذا ما تعاني منه مثلاً الكرة الإيطالية، وهذا ما يميز «البوندسليغا» بناحية مهمة، هي عدم الحاجة إلى الاستثمار الخارجي، وتحديداً الخليجي كما هو حاصل في مختلف البطولات الكبرى، إذ إن كرة الألمان تتميز بالاكتفاء الذاتي، وهذا ما ينعكس حتى إيجابياً على مجالات أخرى ويحصّن من الفساد الإداري على كل المستويات.
في حقيقة الأمر، يتخطى الدوري الألماني مجرد بطولة جماهيرية وجاذبة وآخذة في التطور لناحية المستوى والخطط التكتيكية، وهذا ما استفاد منه المنتخب الوطني للتتويج بمونديال البرازيل، إلى مدرسة باتت، بخبرتها، جديرة بتعليم الآخرين أصول الوصول إلى النجاح والاستقرار الإداري والفني عبر التصميم والمثابرة وقبلاً الذكاء المتّقد، وهي مدرسة تلقى حتى إعجاب وتقدير الخصوم في البلدان القريبة.
اليوم إذاً، تكتمل الصورة في البطولات الأوروبية بأكثر قطعها جمالاً ورونقاً. اليوم يتجدد الموعد مع الدوري الألماني بمدرجاته الحاشدة ومنافساته القوية في الساعة 21,30 بتوقيت بيروت بلقاء قمة مرتقب بين بايرن ميونيخ الأول وفولسبورغ الثاني. سيقف الألمان، بالمناسبة، في كل المباريات في هذه الجولة دقيقة صمت وجدانية تحية وتقديراً للاعب فولسبورغ البلجيكي جونيور مالاندا الذي فارق الحياة خلال العطلة في العاشر من الشهر الجاري، وبعدها يضعون العواطف جانباً ويعودون إلى العمل ثم العمل. بعدها يواصلون، على كافة الصعد في «البوندسليغا»، إدهاش العالم.