قد يجد البعض هذه المقاربة غريبة أو لا ترتبط مباشرة بحدث عقوبة الإيقاف لثماني سنوات التي طالت أمس السويسري جوزف بلاتر والفرنسي ميشال بلاتيني. لكن الحقيقة أن تاريخ 23 تموز 2011 هو ربما اليوم الاول الذي ظهرت فيه أدلة دامغة لم ينتبه اليها كثيرون، بل قرأوها بشكلٍ سطحي، وترتبط بشكلٍ مباشر بروائح تفوح في أروقة الاتحاد الدولي لكرة القدم.
في التاريخ المذكور أقرّت لجنة الاخلاق في الاتحاد الدولي لكرة القدم إيقاف الرئيس السابق للاتحاد الآسيوي القطري محمد بن همام، مدى الحياة. قرارٌ استثنائي اتخذه "الفيفا"، وكان هدفه القضاء نهائياً على الرجل، والدليل أنه مع رفع محكمة التحكيم الرياضي "كاس" عقوبة الإيقاف مدى الحياة عنه، عاد "الفيفا" ليوقفه ثانيةً وبنفس العقوبة أواخر عام 2012.
وفي تلك الفترة أقنع بلاتر لجنة الاخلاق وعالم كرة القدم بأن الرجل مذنب، لكن شريحة كبيرة من المتعاطين باللعبة كانوا على اقتناع بأن ذنب بن همام الوحيد أنه أراد الوقوف بوجه "سيب" في الانتخابات الرئاسية للاتحاد الدولي، فكان توجّه الاخير نحو القضاء على خصمٍ كان مفتاحاً أساسياً في احتفاظ بلاتر بمنصبه الرئاسي. مصادر مطّلعة كررت دائماً أن بلاتر خاف على منصبه، وتحديداً من أي مرشحٍ يمكنه استقطاب الاصوات بدلاً من تجييرها له، فكان اعتراضه طموحات القطري بالضربة القاضية تحت عنوان "أنا من يقرر موعد التنحّي".
عودة الى توقيف بن همام في يوم معاقبة بلاتر

فعلاً كان القرار عند بلاتر في تلك الفترة، لكن أبواب الجحيم فُتحت عليه بعدما تكدست ملفاته واحداً تلو الآخر. خطأه الاكبر كان أنه أدار ظهره للاميركيين والبريطانيين، الذين تلقوا صفعة مزدوجة بسقوط ملفيهما أمام الملفين الروسي والقطري لمونديالي 2018 و2022. وضعه هنا كان يشبه تسجيل لاعبٍ ما هدفاً عن طريق الخطأ في مرماه، أو يشبه مدافعاً فاقد التوازن والتركيز، فسلّم الكرة الى المهاجم الخصم الذي سجل في الشباك. ببساطة، بلاتر لعب هنا مع "الشخص الغلط"، فنُفض الغبار عن ملفاته كلّها ووضعت تحت مطرقة القضاء.
هنا، رميت الملفات و"الفيفا" في مستنقع السياسة، وبات بلاتر جزءاً من "الحرب الباردة"، إذ أراد الاميركيون معاقبته، بينما حاول الروس تعويمه إلى درجةٍ خرج فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ملوّحاً ببراءته ومطالباً بمنحه جائزة "نوبل" للسلام. فاز الاميركيون في جولةٍ أمس، بانتظار الردّ الروسي وما سيرافقه.
إلا أن أحد أبواب الجحيم فتحها على نفسه أيضاً عندما نقّح العنوان المذكور أعلاه وحوّله ليكون "أنا أو لا أحد". وهذا الامر ارتبط تحديداً بالمناسبة الانتخابية الاخيرة، إذ إن تعنّته وعدم انسحابه من السباق أغرقاه اليوم. هو لم يكترث أصلاً لأي أحد، إذ لم يمانع حتى ضرب تلميذه النجيب بلاتيني وتأديبه، وهو أمر كان يمكن لمسه من التصريحات التي سبقت ترشّح الفرنسي الى الرئاسة حيث طال بلاتر بأسهمٍ عدة، بعدما كان بمثابة يده اليمنى، تماماً كما كان بن همام في الحالات الانتخابية. ومما لا شك فيه أن السويسري كان قد ردّ التحية الى أفضل لاعب في العالم سابقاً بمساهمته الاساسية في جعله رئيساً على الاتحاد الاوروبي للعبة، ليكون امتداداً له، وكوسيلةٍ إضافية ليمدّد الرئاسة التي قبض عليها عام 1998، ليتحوّل أشبه ببعض الحكام العرب بالبقاء في كرسيه مهما كلّف الامر.
الخطأ المميت لبلاتيني أنه لم يتّعظ ممّا شاهده سابقاً من آثار "الإعدامات" التي طالت ضحايا آخرين، منهم مواطنه جيروم شامبانيي الذي أُخرج من "الفيفا" بسبب اعتراضه على آلية العمل هناك واقترابه من كشف أسرارٍ كثيرة. نسي بلاتيني أن بإمكان بلاتر أن يغرقه تماماً كما رفعه الى السماء السابعة، ونسي شعار السويسري الذي بدا مستعداً لتدمير الهيكل على نفسه وعلى أعدائه، شرط ألا يحكُم أحدٌ غيره الامبراطورية الكروية.
هو فعلاً الدمار الكبير، والخطوات الثقيلة لبلاتر في طريقه الى مؤتمره الصحافي أمس، ووجهه الشاحب حيث بدا كأنه كَبُر عشر سنوات دفعة واحدة، يعكسان انهيار ونهاية الرجل الذي حاول دائماً أن يجعل من ابتسامته سلاحاً يفتح من خلالها الحدود بين الدول التي تضمّها إمبراطوريته. هي إمبراطورية أصبحت من التاريخ اليوم، وهي قصة بمثابة الدرس لكلّ من يعتقد بأن حجم سلطته سيبقيه حاكماً بأمره الى الأبد.





الثنائي الموقوف 8 سنوات: لن نستسلم

في أول رد فعل له على القرار، أكد بلاتر أنه سيستخدم جميع الوسائل الممكنة للإحتجاج على العقوبة، وقال في مؤتمر صحافي عقده في المقر القديم للإتحاد الدولي: "سنستأنف العقوبة أمام لجنة الإستئناف (التابعة للفيفا) ثم أمام محكمة التحكيم الرياضي ثم أمام القضاء السويسري".
من جهته، ندد بلاتيني بالقرار واعتبره "مهزلة حقيقية" تهدف الى "تلطيخ" سمعته من طرف هيئات نفى عنها "كل شرعية وصدقية" وفقاً لبيان أرسله إلى وكالة "فرانس برس". وقال بلاتيني: "موازاة مع لجوئي إلى محكمة التحكيم الرياضي "كاس"، أنا عاقد العزم، على اللجوء إلى المحاكم المدنية في الوقت المناسب، للحصول على تعويضات عن جميع الأضرار التي عانيتها لأسابيع طويلة جداً بسبب هذا الحُكم. سأذهب حتى النهاية في هذه العملية".