أمام مقهى "قصيدة نثر" المغلق بسبب الإجراءات التي فرضها وباء "كورونا"، وسط مدينة اللاذقية، يجلس جورج عتيق يومياً، يعتني بالنباتات والأزهار، يسقي الأشجار المحيطة بالمكان، يطعم قططه، يراقب مدينته المثقلة بأحزان الحرب والفراق وهمومها، يدخن سجائره وحيداً.يبدو الموقف وليد صدفة بحتة ربطت "العمّ جورج" بمكان يحمل اسم "قصيدة"، فهو صديق الأجيال في اللاذقية، والنّجار الذي صنع براويز خلّدت لحظاتٍ لن تنسى، وصنع مراسِم وأعدّ قماشاً للرسامين، ليغدو جزءاً من ثقافة المدينة.
يبتسم جورج حين سؤاله عن عمره، ويقول بعد أن يشعل سيجارته: "ولدت بسنة النكبة (1948)"، يقطع حديثه ليبعد أطفالاً كسروا بِكُرَتهم نبتةً يعتني بها "العبوا بعيد عن النباتات حرام تكسّروها"، قبل أن يعود إلى جذع شجرةٍ حوّله في ما مضى إلى كرسيٍّ له.
في ورشةٍ صغيرة، وبمعداتٍ بسيطة، صنع "العم جورج" النّجار آلاف القطع خلال السنوات الطويلة الماضية، لا يذكر تحديداً السنة التي قرر فيها ترك عمله في المرفأ ليعمل في مهنةٍ يحبها، يقول باختصار: "من زمان كتير"، قبل أن يتابع: "هيك أريحلي".
اعتزلَ العم جورج العمل في النجارة هذا العام، تاركاً وراءه "قصائد" من خشب، مكتبات ومراسم وقطعاً مختلفة، باع ورشته القريبة من المقهى، وهو الذي تركت مهنته علامة فارقة في جسمه بعدما فقد إبهامه في إحدى المرات.
رغم ذلك، لم ينقطع يوماً واحداً عن زيارة الحارة، فله فيها أشجار ونباتات تنتظره، وقطط وأصدقاء.
من التقى "العم جورج" مرة واحد فقط لن ينسى هذا اللقاء أبداً، مستمعٌ يجيد "جبرَ خواطر المكسورين"، مثقفٌ خفيفُ الظلّ، نزقٌ وحالمْ.
على مدار العقود الماضية، عاصرَ العم جورج أجيالاً كثيرة من الشبان، وما زال. راقب أصدقاء كُثراً يغادرون المدينة، تاركين وراءهم أغنياتهم وقصائدهم، ليبقى هو، رغم وحدته، مزدحماً بهم، وحارساً لتلك القصائد.