عكاكيز

  • 0
  • ض
  • ض

«لك حاج تزمر، ما شايفني عبّطالع العاجز»؟ صرخ سائق سيارة الأجرة، ردّاً على احتجاج سائق غاضب، بينما كنت أجهد لجرّ ساقي إلى المقعد الخلفي من السيارة، بعد أن وضعتُ عكّازيّ في المقعد الأمامي. حصل ذلك قبل خمسة عشر عاماً وسط مدينة حلب، وكان واحداً من مواقف كثيرة مشابهة عايشتُها أربع سنوات، لم أكن قادراً على المشي خلالها من دون عكّازين، بسبب ظروف صحّية طارئة. في موقف آخر، توقّف السائق أمام شرطي المرور، وطلب السماح له بسلوك اتجاه معاكس، بذريعة أنّه يريد إيصال العاجز (أنا) بسرعة، «لأنو إجرو عبتوجعو كتير ولازم ياخد الإبرة، ما بدي أبرم ويطول الطريق». في المرتين، ابتلعت الموقف ولم أنطق، غير أنني انفجرت ذات مرّة، في وجه سائق ثالث. كان الرجل قد أوصلني إلى وجهتي، ناولته خمساً وعشرين ليرة سورية (أي والله، كانت مبلغاً يكفينا أجرة تاكسي لمشاوير طويلة نسبيّاً). لكن السائق «الطيب» قرّر ألا يتقاضى مني أجراً. «روح خيّو روح، مسامح»، قال لي. رفضتُ بلسان حلبي «فصيح»، فأصرّ على موقفه، وقال «لك روح خيّو، معقول آخد أجرة من واحد عاجز؟! الله يكون بعونك». صرخت «بدك تاخد، عاجز بس ما (لست) شحّاد». انتزع القطعة النقدية من يدي، وقال بغضب «عاجز، ونفسيّة كمان!». أسترجع بين وقت وآخر تلك المواقف، ومواقف أخرى مشابهة، وأبتسم. أتذكر تماماً أنّ كثيراً منها كان يصيبني بنوبات غضب أحياناً، وبأسى كبير أحياناً أخرى، خاصة أنني لم أكن واثقاً من أن علاقتي بالعكازين لن تكون أبديّة، قبل أن «أتأقلم» بمرور الوقت. الباعة، أصحاب المقاهي، السائقون، موظفة البنك، وغيرهم، كانوا يجدون الفرصة مواتية بفضلي، كي يختبروا مشاعر الشفقة لديهم، وبعضهم كي يشكر ربه الذي عافاه و«خلقه سويّاً». لن نختلف في أنّ دوافع كثير منهم كانت صادقة، وطيبة بالفعل. وقد يشبههم في ذلك بعض المتفاخرين هنا وهناك بأنهم يرعون مشاريع لـ«المعوّقين»، ويشحذون لهم المشاعر (وأشياء أخرى). يحتارون في ابتكار التسميات المناسبة، يتفنّنون في ابتداع «وسائل الجذب»، انطلاقاً من آلية تفكير يمكن إيجازها بـ«تعالوا تفرجوا على هذا القفص وتعاطفوا، وصفقوا مهما رأيتم». مرة كان أحدهم يسوّق لأمسية أدبية يشارك فيها ثلاثة معوّقين، ويقول وسط جمع من المهتمّين ما معناه «شو ما طلع معهم منيح». وعلى نقيضه، سمعت قبل سنوات أحدهم (وكان «مسؤولاً» ثقافيّاً) يقول بغضب، رافضاً إعطاء موافقة لحجز مسرح يندرج ضمن مسؤولياته «هلأ المعاقين صاروا بدهم يعملو مسرحيات كمان؟ يروحو يمثلو ببيوتهم». الأنكى، أنّ من كان يحاججه ويحاول انتزاع موافقة حجز المسرح، قال له «يا أستاذ ليش مو عاجبينك المعاقين؟ ما بتعرف إنو كل ذي عاهة جبار؟». هذه نماذج من مجتمع، معاق، عاجز، ذي عاهات، يرى كثير من أفراده نفسه «كاملاً» يشفق على «ناقص». وحدها الحكومات التي تعاقبت على تدبير أمورنا بحكمة متوارثة، عرفت دائماً كيف تعامل الجميع على قدم المساواة. لذلك، لم تشغل بالاً بـ«توافه الأمور»: لا ممرات مشاة خاصة لأحد، لا مقاعد في وسائل النقل العامة تراعي احتياجاً، لا مصاعد في معظم المباني العامة، لا مراحيض تراعي ظرفاً صحيّاً (حين يصادف أن تعثر على مراحيض عامة). وحدها الحكومات تُدرك قيمة أكتافنا جميعاً، وتجيد التعامل معها، بلا أي تفرقة.

0 تعليق

التعليقات