لمّا بدأت أحداث سوريا لم أُفاجَأ، لأننا كنا شهوداً لِربع قرنٍ على وطن يتردّى، وكنت أتساءل (حين أرى هيجان جمهور رياضي) ماذا سنفعل غداً حين ينكَشِط سطح المستنقع الساكن عن الرائحة النتنة في العمق؟ فيما تُواري إذاعات بؤسَ الواقع بفيروز الصباح التي صارت عوالمها كحلمٍ بعيد.بدأ الحراك بتظاهرة في دمشق، فنزل وزير الداخلية وقال لهم لافِتاً نظرهم إلى أنهم خرَقوا المُحَرّم (بس هاي تظاهرة ها) وبعد، ركب الراكبون الموجة، وصرنا هنا. والذين كانوا بانتظار (غودو) ليقود ثورة فات وقتها، أوهموا أنفسهم بأن مجرد توَفر عوامل موضوعية كافٍ لتسمية ما كان يجرى بـ«الثورة».
تمرّ صوَر أيامٍ خلَت، كعوالم أخرى، وكما يغفل المَرء عن إمكان موته، كنت أعرف أني سأبقى حياً، والآن يخطر في بالي بعض مَن عرفتهم، لن أجدهم في أي مكان، فقد ماتوا ببساطة، وأفكر أن ليس بين الحياة والموت ذلك الفاصل العسير، هي ثانية لو تجاوزها المرء لَصادفته مرة أخرى على رصيفٍ ما يبتسم لك مِن بعيد.
الأيام تتعاقب في عبث مفتوح من دون غاية «مُسبَقة» بل إلى غايتها... والذين فارقوا أهلهم، باتوا ذكرى عارِضة. والذين قُتِل أبناؤهم في مكان (لم يخطر في بالهم يوماً أنهم سيعبرونه) ماتت معهم ضحكاتهم ونكاتهم البسيطة... يُوارونهم تحت اسم الشهادة وأوراق الأيام المتداعية.
كانت على الشاشة الصغيرة تقول عن أخيها الشهيد «كنت أكبر منو بأربع سنين... كنت وصّلو عالمدرسة. ومن صغرو كان راقي، لما فقدت زوجي كان أب لأولادي. وهيك فقدوا أبوهن مرتين، استشهد بنيسان. ولما بيجي الربيع، ونيسان غصّة بالقلب... ولما بسمع فيروز. اسمه علي... وكان عليّ. ابنه الصغير قال: كان يقلّي انت عصفور صغير».
هنا، بسهولة تعثر على السُّني والعلوي والمسيحي وغيرهم... وبصعوبة تجد الإنسان. لقد ارتبطَت حالة اسبينوزا وآينشتاين الإبداعية بتجاوزهما لليهودية، وبالتحديد لليهودية القطيعية. كان والدي على الفطرة، لم يُلزِم نفسه بطقس، ووالدتي ذات تفكير حر، ورغم أنها لا تعرف القراءة لم تكن أميّة، وكانت تبحث عن بعض السِّيَر وتشتريها وتأخذها إلى خالي (الذي لحق بها إلى عالم النسيان) ليقرأ لها كل مساء فصلاً، وكانت تأخذني معها... وبالكاد ألحق بها وأنا ممسك بتنورتها.
كان الوالدان وكأنهما بلا ظِلال، وغابا وكأنهما لم يبرَحا... لكنهما انعتقا من وطأة الزمن اللاحِق.
الآن نرى اللامبالاة والعدوانية والاستخفاف بقِيَم مثل الشجاعة والتعاطف والوضوح، عابر تصدمه سيارة ويبقى مرميّاً في الشارع كأنه في صحراء... وحلّ محل الشعور الوطني شعور بالخوف والقلق والقرف، وإلى الآن تجتاحنا الأغاني الوطنية المبتذلَة.
يتداعى تاريخ البشرية نحو الهاوية... اسبرطة انتصرَت على أثينا الثقافة... وبيزنطة على اليونان... وانتصر العثمانيون والسلاجقة وأضرابهم مِن بدو العرق الأصفر على العرب (وعلى كل ما هو غير عثماني) والرأسمالية المتوحّشة ابتلعَت البرجوازية المستنيرة، وصارت بقدرة قادر (قوّادة) للثورات... وما زال القاع بعيداً. هل هو تشاؤم كما يظن البعض (وبعض الظن إثم) أم وصف لواقع، تاريخ التنوير فيه إضاءات عارِضة في ليل البشرية المديد.
منذ فترة مشيت في شارع، وشممت رائحة طعام يتم تحضيره... ثوم بالكزبرة. ردّتني إلى أيامِ خوالٍ... ثم فوجئت بطلاب المدارس الابتدائية وفكّرت: ألا تزال هناك مدارس؟ لقد افتقدنا إلى بساطة الحياة، لكن أخشى أن تحكمنا التيوس بواجهة ليبرالية، ليتحول المجتمع إلى تجمّع كلاب مُتهاوِشة.
«راشيل كوري» تركَت بيتها وأهلها وحزمَت صرّتها على ذكرياتها الحميمة التي تنتمي إليها وجاءت إلى حيث لا يهتم أحد، لتدافع عن الإنسان. لتدافع عن ذاتها في الآخرين. أتذكّر كلمات أمها: «أظنها قاومَت الخوف الذي تشعر به مِن أجل أن تجد المعنى مِن حياتها».
يوحنا المعمدان (يحيى)، ما زال صوتاً صارِخاً في البرية... ولا مِن مُجيب.