ليس بعيداً عن «باب شرقي» في دمشق، ثمّة حانةٌ محتفظةٌ بكثير من ألَق الماضي، من دون أن تسلبها حظوتَها عشرات البارات المستحدثة على امتداد «الشارع المستقيم». لا يستقيم الأمر، في نظر الكثيرين، إن لم تمر عبر «خمَّارة أبو جورج»، وتحتسي فيها كأسين على الأقلّ: كأس ما بتنا عليه من حنينٍ كاسحٍ وأمل مكسور بـ«حياة طبيعية». وكأس الماضي، الذي نستعيده كحاضر مُستمر، ونبكي استثنائيته الباهرة. لكأنّ هذه الحانة اندغام كامل لحياتنا، ماضياً وحاضراً، ففيها يتعتَّق الزمن وينصهر، ويصبح أكثرَ مرونةً، لتستطيع العيش قبل عشر سنوات، بمجرد دخولك إليها. يمكنك هنا استحضار أرواحك التي خسرتها في الحرب، حينها لا يعود ثمة معنى للمستقبل، فأنت أسير اللحظة وشجونها، خاصةً وأنت تحاول فكَّ طلاسم الذكريات المتشابكة على الحيطان، تماماً مثلما تتشابك أرواح مرتادي الخمّارة ليصبحوا أصدقاء منذ اللقاءات الأولى.أحدهم يشكو حبّه المهاجر، وآخر يشدو «أراك عصيَّ الدمع شيمتك الصبر»، وثالثٌ يطلب بكثافة مشاعر سكان الأرض أغنية «دير القَدَحْ يا حِبِّي نِشْرَبْ». حينها يُصغي الجميع إلى المطربة حنان، بحنين جارف. يتكرر الأمر مع مطربين آخرين، لنصبح أمام «ما يطلبه المُشتاقون» إلى ماضيهم وكينونتهم، بعد الحرب، والفقدان، والوجع الطازج والمتجدد بمعية كأس أو اثنتين. تكثيف المشاعر تُعزِّزه الإضاءة الخافتة، والخيال المُستغرِق في بقايا صور تُلمْلِمُها الجدران كأيقونات تحفز مخيلة الملتاعين شوقاً، إلى أحبة اختفوا خلف تدوينات زوار الحانة. لم تعد ثمة مساحة خرم إبرة لتكتب شيئاً، وكأن الخمَّارة تقول لك بشكل موارب «هنا كُتِبَ كلُّ شيء، وما عليك سوى أن تتأمل، وتتمعَّن في معنى الزَّمن، وكيفية انقضاء عقد من الفقد واليأس والبكاء والمرارة». أما تشكيلياً فأنت أمام «كولاج» مُتقن للمقهورين، تتوازى فيه اليوروهات والدولارات المُرفقة بذكريات أصحابها، مع «الخمسينات» السورية المهترئة. عولمةٌ من نوعٍ آخر تقتحم المشهد، لا تقوم على الاقتصاد حسب، بل يتدخل فيها علما الاجتماع والنفس، لأننا ضمن هذه الدراما نُعاين أملاً معكوساً باتجاه ماضٍ يجتمع فيه السياح الأجانب وأهل البلد ضمن «كادرٍ واحد»، وتصدح إيديت بياف، إلى جانب ربا الجمال، وفرانك سيناترا، بجوار جوزيف صقر. أما على صعيد الأدب فيتعارف «غريب» ألبير كامو مع «مفيد الوحش»، ويتصادق بطل «الإنسان الصرصار» لدوستويفسكي، مع «حسني البورظان» وإشكاليته الوجودية بين إيطاليا والبرازيل. أما السياسة، فتسقط في «خمّارة أبو جورج» بضربة قاضية من أنامل عازف العود الجميل، وهو يغني «حب إيه اللي أنت جاي تقول عليه». وما إن ينتهي، حتى يُكمل تطريبه بلعن الرأسمالية والإمبريالية، شاتماً «الأمم المتحدة» و«الزمن الوغد» الذي سمح لـ«بضعة صعاليك» أن يُغلقوا أحد مداخل باب شرقي، قبل أن يعاد فتحه إثر «احتجاجات افتراضية». لكن احتجاجات مماثلة، لم تنجح في إيقاف «بعض الزعران» عن «أفعال شائنة في القشلة»، ولو كان كل ما يفعلونه «نكايةً بداعش» كما يزعمون. مثلهم، مثل التكاثر الغريب للبارات في الشارع المستقيم، وبقية حارات دمشق القديمة. وكأن «النكايات» تطويبٌ مُلغَّز من «مكتب عنبر» لتحويل المدينة القديمة إلى مجرد مطاعم وبارات. ولتفنَ محلَّات بيع «الشّرقيّات» كَرمى لعيون التجار والمستفيدين الطارئين على المشهد، الذي لم يبق من أصالته سوى بضعة معالم وعلامات، منها «خمارة أبو جورج» المحتفظة بهويتها، وشيء من هوية المنطقة التي تنتمي إليها، كبصيص ضوء خافت نحو «ماضي أيامنا الآتية» لا محالة.