تستفيض روز عبده في حديثها عن «رضا»، الشخصية التي ابتكرتها ضمن ورشة عمل خاصة بإحياء مسرح الظل في سوريا. تصف عبده أدق تفاصيل شخصيتها، شكلها، تاريخها، وضعها الاجتماعي، والمواقف التي يمكن أن تمرّ بها. تقول عن «رضا»: «شخصيته عكس اسمه تماماً، ثلاثينيّ يحمل سُلّماً بالعرض. وعروضه تحمل الطابع الكوميدي». تقول الشابة عن اختيارها شخصيةً ذكورية: «يمكن للمرأة أن تقدم شخصيات أنثوية أو ذكورية، لا مشكلة في ذلك... اهتمام النساء بالتفاصيل كبير».روز هي واحدة من 13 أنثى يشاركنَ في ورشة تدريب تضم 23 مشاركاً ومشاركة من مختلف المحافظات السورية لإحياء «مسرح الظل»، وتنظمها «الأمانة السورية للتنمية». تشكل المشاركة الأنثوية في الورشة سابقة في هذه «المهنة» التي احتكرها الرجال منذ نشوئها، حتى عهد آخر من مارسها في سوريا (أبو عزت حبيب الذي توفي عام 1970)، قبل أن يعيد شادي الحلاق إحياءها في العام 1993، بعدما عثر عن طريق الصدفة على كتب خُطّت باليد، وبرموز وشيفرات حول هذا الفن. الورشة التي تنظمها «الأمانة السورية للتنمية» في التكية السليمانية، تهدف إلى تخريج 23 «مخايلاتياً»، سيشكلون نواة لإعادة إحياء هذه المهنة، وإضافة شخصيات معاصرة أقرب للمتلقي من «كركوز وعيواظ»، مع الأخذ في الاعتبار الحفاظ على تراث هذا الفن.
تشرح شيرين النداف، المشرفة على المشروع، خلال حديثها إلى «الأخبار»، أنه تم الإعلان عن الورشة عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام السورية، ليتم انتقاء وانتخاب الأشخاص المشاركين حالياً، ضمن مراحل عديدة تعتمد على بعض العوامل الفنية والتنوع الاجتماعي. وتضيف «في هذه الورشة نقوم بتدريب المشاركين على المهنة بمختلف جوانبها، بدءاً من صناعة الشخصيات من الجلد الطبيعي، وصولاً إلى بناء المسرح، وتحريك الشخصيات وكتابة السيناريو والحوار ليصبح العرض متكاملاً». وللتأكد من نتاج الورشة، تقول النداف إن المشاركين سيخضعون لامتحان في نهايتها، موضحة أنه «تم تأليف منهج تعليمي لمسرح الظل ضمن النشاطات التي تهدف إلى حماية هذا الفن وصونه، بمشاركة عدد من المختصين والأساتذة الجامعيين».

«المخايل الأخير» لم يعد وحيداً
منذ نجح شادي الحلاق في إحياء «مسرح الظل»، عمل في هذه المهنة بمفرده في سوريا، الأمر الذي جعله «المخايل الأخير والوحيد». وقام بتقديم عدد كبير من العروض داخل سوريا وخارجها، قبل أن يتعاون مع «الأمانة السورية للتنمية» لتسجيل هذا الفن على قائمة التراث الإنساني العالمي اللامادي الذي يحتاج إلى الصون العاجل، في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو). يلقّن شادي، وهو ابن رشيد الحلاق (حكواتي الشام) الذي كان يقدم عروضه في مقهى النوفرة، المشاركين في الورشة كل ما تعلمه خلال الـ26 عاماً الماضية، ويقول: «جرت العادة في الماضي على أن يحتفظ صاحب المهنة بأسرار مهنته لأبنائه فقط، فلا يورثها لأحد غيرهم. اليوم أقوم بمشاركة كل أسرار المهنة التي أعرفها مع المشاركين في الدورة»، ويضيف أن أهم ما في الأمر أنه لم يعد وحيداً.
يجري تجهيز متحف دائم وخاص بـ«مسرح الظل»


خلال حديثه، يفتخر الحلاق بما أنجزه، قائلاً: «تم تسجيلي من قبل جامعة أوكسفورد وفي عدد من البلدان، كما شاركت في عدد من ورشات العمل لصيانة تحريك الدمى، بينها ورشة عمل مع العم صابر المصري، وهو آخر شخص في مصر يعمل في تحريك الدمى (الأراغوز)»، إلا أنه لا يخفي حزنه من عدم تسجيله في بلده سوريا أو الاعتراف به بشكل رسمي، رغم تقديمه عروضاً في «دار الأوبرا». يكشف الحلاق عن مشاريعه المستقبلية لصون «مسرح الظل»، ويقول: «يمكننا إنشاء جمعية ثقافية، يشكل المشاركون في الورشة نواتها، كما يمكن إقامة مهرجانات خاصة بمسرح الظل، هذا ما أسعى إليه»، مضيفاً أنه يعمل على تأليف كتاب خاص عن هذا المسرح.

متحف دائم
بالتزامن مع ورشة العمل، يجري تجهيز متحف خاص بـ«مسرح الظل»، هو منزل المناضل عبد القادر الجزائري، يضم شخصيات تراثية يعود بعضها إلى نحو 200 عام، إضافة إلى الشخصيات الجديدة التي يعمل المشاركون في الورشة على صنعها. كذلك من المقرر أن يضمّ المتحف مسرحاً دائماً. يقول يامن معلا، وهو فنان شاب: «سيتم تسجيل كل شخصية باسم مبتكرها وعرضها في المتحف إلى جانب الشخصيات التراثية القديمة»، موضحاً أن الشخصية التي صنعها ترتبط بالساحل بشكل كبير، يحدثنا عنها قائلاً: «قمت بتصميم شخصية تعيش في البحر، عبارة عن جسم أخطبوط بأذرع أرجوانية ورأس إنسان حكيم، هي شخصية حنونة وقوية سمّيتها: أوليل، لتكون مشتقة من اسم الإله السوري إيل، واللفظ الأمازيغي لكلمة بحر أيليل».

مواضيع حساسة
ترتبط الشخصيات الجديدة في الورشة بمبتكريها وأفكارهم بشكل كبير، وتشكّل جسراً لمناقشة قضايا تحاكي الواقع الذي نعيش فيه، الأمر الذي أفسح في المجال أمام نورا علي لخلق شخصيتها «عهد»، وهي «شخصية عشرينية، تعاني من اضطراب هوية جنسية». تحدّثنا نورا عن «عهد» قائلة: «اعتبرتها العائلة والمجتمع منذ مولدها أنثى، ولكنها وضعت موضع شاب العائلة من خلال المهام الموكلة إليها، أو حتى المهن المتعددة التي تعمل فيها، كورشة السيارات مثلاً». تضيف: «جعلت ملامحها محيّرة، فهي تملك بروزاً في الأنف والذقن، شعرها قصير، ولديها وشم عين على قدمها، لتكون عينها الثالثة في المجتمع، الذي تحاول التشبث فيه برجلين طويلتين حافيتين».


ترى علي، وهي متخرّجة جامعية في اختصاص «رياض الأطفال»، أن «مسرح الظل» يساعدها كثيراً في تعاملها مع الأطفال، وهو ما تؤكده أيضاً روز عبده، التي ترى في هذا المسرح فرصة مزدوجة تساعدها كمرشدة اجتماعية من جهة، وتمكنها من امتلاك مهنة ثانية بالمعنى الحرفي لكلمة مهنة، وهو ما قالت إنه شكل حلماً بالنسبة إليها، خصوصاً أن والدها يعمل في مهنة النقش على النحاس.
يبذل المشاركون في الورشة والقائمون عليها جهوداً مضاعفة لإتمامها وتخريج «مخايلين» يمكنهم حفظ هذا الفن من الاندثار، إذ يسافر عدد من المشاركين فيها أسبوعياً من محافظاتهم إلى دمشق، كما يضطر كثيرون إلى التعامل مع أدوات لم يكن يخطر في بالهم يوماً أن يتعاملوا معها، تقول نورا علي: «الجلد صلب وحاد، والتعامل معه صعب جداً. كذلك بناء المسرح وأدواته». ورغم ذلك، ينتظر الجميع اليوم الأخير في الورشة لإعلان ولادة جيل جديد من «المخايلين»، وإعادة «كركوز وعيواظ» إلى الحياة مع أحفاد جدد، بعدما كانا مهدّدين بالاندثار والنسيان.