يصعب على سكان دمشق هذه الأيام، أن يحظوا بعملة ورقية من فئة الخمسين ليرة. وإذا حصل ذلك، فغالباً ما تكون قديمة ومهترئة. لكن الأمر ليس بهذه الصعوبة في منزل الحاج هيثم طباخة، أحد وجهاء حيّ «العمارة» وسط دمشق. إذ خزّن طباخة نسخاً عدّة من «العملة النادرة» في دفتر كبير، تكشفُ صفحاته عن عملات قديمة أيضاً، تبدأ بورقة الخمسين ليرة، مروراً بورقة الخمس ليرات الصفراء، والليرة المعدنية بطلة «الطرّة والنقش»، وربع الليرة والقرش، وليس انتهاءً بالفرنك، وغيرها من القطع المفقودة التي بدأ بتجميعها منذ شبابه.دفتر طباخة ـــ الذي يُعرّف نفسه بالباحث في التراث ـــ ليس سوى تفصيل صغير جداً في منزل كبير، يحوي في كل زاوية من زواياه قطعاً تراثية وأثرية، جمعها الرجل في سنوات حياته، ليتجاوز عددها حاجز الثلاثة آلاف قطعة، ولكل منها قصة وحكاية. هنا «بابور» كاز فرنسي يعود إلى مطلع القرن التاسع عشر، وهناك إبريق شاي نحاسي تركي من القرن الثامن عشر، فمكواة إيطالية معدنية ثقيلة، وكرسي صيني، وآلة كاتبة إنكليزية، وعدد من السيوف والخناجر والملابس وغيرها الكثير من قطع «الأنتيك».
«كل شي قبل الحرب قديم» يقول طباخة لـ«الأخبار»، ويضيف: «كل سنة من سنوات الحرب بعشرة، لقد نسي الناس كيف كانوا يعيشون». يتماهى طباخة (67 عاماً) مع الماضي، فيصرّ على ارتداء عباءة وطربوش خلال لقائنا. يضع بجانبه سلة خشبية، ثم يجلس على كرسي مخصص له، ويقول: «بدأت بتجميع كل ما هو قديم في شبابي. عندما كبرت، حولت بيتي إلى متحف للعموم، يدخله الكثير من الأصحاب والجيران، وحتى الأشخاص الذين لا أعرفهم، ليشاهدوا شيئاً من ماضيهم الذي لن يتمكنوا من مشاهدته إلا في هذا المنزل».
على الجدران توزعت عشرات الصور لدمشق بالأبيض والأسود، معظمها يعود إلى السبعينيات والثمانينيات، وتكشف الصور «أناقة رجال ذلك الزمن ونسائه، ورونق شارع المعرض، والسيارات القليلة المصطفة في ساحة المرجة، وخط الترام (الترامواي) الكهربائي قرب محطة الحجاز». قسّم طباخة منزله إلى طبقتين: الأرضية حيث الفسحة السماوية وغرفة الاستقبال المُحاطة بالذكريات، فيما خصص الجزء العلوي للسكن. علّق في إحدى الزوايا ملابس تقليدية تعود لسكان مدينة داريا، وثوباً آخر مما كان يلبسه سكان برزة، أو الغوطة أو المزة. وعرض في خزانة زجاجية حاسوباً قديماً يعود إلى التسعينيات، وفوقها صدرية مدرسية لونها بيج غامق، مما كان يرتديه التلاميذ. يبرّر طباخة شغفه بالماضي، ويقول: «أجمل المستقبل ما مضى. أنا غارق في تفاصيل الماضي، ولا أريد أن أنجو من هذا الغرق... أعتقد أن أجمل أيام عاشتها سوريا هي بين الخمسينيات والثمانينيات، إذ كان الخيرُ وافراً، وبردى غزيراً، والغوطة خضراء، ودمشق مدينة نظيفة ومرتبة وأنيقة ومليئة بدور العلم والثقافة».
يغوصُ هيثم بذكرياته ليحدثنا عن بيت جده، وعن الآبار التي كانت داخل كل منزل عربي، والقنوات التي تحمل المياه العذبة والباردة، وأواني الفخار والزجاج. يقول: «اليوم كل شيء بلا معنى، ومصنوع من البلاستيك. الكرسي والكأس والصحن والمقشة والحصيرة، كلها اليوم بلاستيكية، وبلا قيمة. سقى الله أيام الصحن الزجاج، والحصيرة القماشية، والمقشة الخشبية، والإناء الفخاري».
يشبّه الرجل باب منزله ببوابة لآلة الزمن، إذ ينتقل من يعبرها مباشرة عشرين سنة إلى الوراء على الأقل. وينسى زوّاره أنفسهم، فلا يشعرون بمُضيّ الوقت. يقول مشيراً إلى باب منزله: «هنا يتوقف الزمن عند عتبة هذا الباب. هذا عالم وذاك عالم آخر، فمن أراد أن ينسى الحرب، فليدخل إلى عالمي، وسأسقيه كأساً من الشاي لن ينساه ما دام حياً».